إيمان القويفلي
ليلة القدر في المخيلة الشعبية
هناك الآيات والأحاديث النبوية التي تذكر ليلة القدر، وهذه ليست موضوع المقالة، وهناك طريقة انفعال المؤمنين بهذه النصوص وما تنتجه مُخيّلتهم من وحيها، وهذا هو الموضوع. ولأن ليلة القدر موضوعٌ غيبي، فإنها تطلق المخيّلة إلى مداها الأقصى، كما هو الحال مع كل الموضوعات الغيبية، كالجنة والنار، وما بعد الموت، وعندما تنطلق المخيّلة بهذه الطريقة فإنها لا تكشف عن حقيقة ليلة القدر بقدر ما تكشف عن حقيقة ذاتها، الذات المُتخيِّلَة، رغباتها ومخاوفها وحدود مخيّلتها. نحن في عالم نؤمن فيه بانقطاع النبوّات عموماً، وضمن ثقافة محلية خاصة لا تتحدث لغة الكرامات والتجليات وأولياء الله، أي ضمن انحسار عام لإمكانية الاتصال بعالم ٍ غير أرضيّ وبكائنات غير البشر وكلمات غير كلماتهم. من المفهوم ضمن هذه الشروط أن تأخذ ليلة القدر ثقلها ومكانها الملهم للمخيّلة بما أنها واحدة من النوافذ القليلة التي تبقى متاحة للتماس مع ملكوت السماء. الذي يحدث أنه وضمن اللهفة البشرية الشديدة للاتصال بليلة القدر والسماء، لم ينتقل هذا الإنسان بروحه وفكره إلى العالم السماويّ بل حدث العكس تماماً؛ فكان الإلحاح على استدعاء ليلة القدر إلى نطاق الملموس والمحسوس والأرضي والقابل للقياس. ضمن هذه الفكرة يمكن تفسير اللهفة الشديدة كل عام على تسقّط أخبار ليلة القدر، من المألوف أن تسمع في العشر الأواخر من الشهر أحدا يبحث عن تأكيد: "يقولون ليلة القدر كانت أمس؟". وذلك الإلحاح على تلمّس العلامات الحسية في الطقس، على YouTube مثلاً لقطات لما يُفترض أنه شروق شمس، توصف بأنها باردة وبلا شعاع، كدليل إثبات قاطع على ليلة القدر. هناك من يذهب خطوة أبعد ويؤكد أن خفوت شعاع الشمس سببه الملائكة التي تقفل مواكبها صباحاً راجعة إلى السماء. في القديم أقسم أحد التابعين أنه ذاق ماء البحر ليلة القدر فوجده عذباً، وفي الحاضر اجتهد رجل سعودي في تحديد موعدها بشكل نهائي وليس غريباً أنه أثار اهتماماً كبيراً. وأفرزت هذه المخيلة تساؤلاتٍ مدهشة حول ما يحدث لليلة القدر بسبب اختلاف دخول الشهر من بلد لبلد، وما يحدث ليلتها في الأقطار غير المسلمة. وفي صغري سمعت قصة كانت هي الأكثر إثارة للمخيّلة، عن امرأة صالحة خرجت تودع زوجها في فناء البيت فانشقّت السماء ورأت نوراً وملائكة، "رأت" ليلة القدر، وعندما ولدت طفلها الذي كانت حاملا به ولد وقد تضررت عيناه، فحتى الأجنّة ترى ليلة القدر. من الصعب أن يهتك المرء هذا النسيج الخيالي، أن يحاول إعادة "ليلة القدر" إلى غيبيتها وترفّعها عن الحسّي، سيكون كمن يوارب درفتي "طاقة القدر" في وجه المخيلة الشعبية، ويأمرها بالإيمان دون أن تلمس، وترى، برغم أن هذه هي طبيعة الإيمان الأصلية، دون أن تلمس وترى، الله، الملائكة، الجنة، النار، وليلة القدر.
أتوقع أن تأكيد (د. خالد الزعاق) علمياً استحالة شروق الشمس بلا شعاع واستحالة تغير درجة حرارتها، أثار انزعاج كثيرين، وأنه سيوجد من يرغب في الإيمان بتحول البحر عن ملوحته، من باب الإيمان بالعذوبة المطلقة والكمال الكونيّ التام لتلك الليلة. نفس المخيّلة تقارب ليلة القدر من زاوية "الرياضيات الدعوية" وهو شكل آخر من أشكال المقاربات الحسية من مخيلة عاجزة عن التجريد. لا تميل هذه المخيلة الشعبية إلى اعتبار تفضيل ليلة القدر على ألف شهر، تفضيلا مجازيا أو تشبيها لتقريب المعنى وتعظيمه في النفس والمخيلة. هناك نصوص دعوية تتناول الآية بحرفية وتبدأ – بجدّية غريبة – في إجراء معادلات رياضية لحساب "قدر ليلة القدر".
ألف شهر تساوي 83 عاماً، فكم تساوي الدقيقة؟ وكم تساوي الحسنة؟ وكم تساوي الركعة؟ وكم تساوي قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ الأعداد المليونية الناتجة تضعك نفسياً بالقرب من لغة المال والاقتصاد. يفترض أن تكون هذه المقالة يوم السابع والعشرين من رمضان. بلا شكّ امتلأت المساجد البارحة كالعادة بضعف عدد المصلين، عدد كبير منهم لا يذهب إلى المسجد إلا ليلة السابع والعشرين، بما أنها الأرجى. وهذا الجزء من المخيلة يذهب إلى فهم ليلة القدر من منظور "أكبر قدر من العوائد بأقل قدر من الجهد". معادلة تجارية صرفة تخترق ثقافتنا في كل شيء آخر، أكبر دخل بأقل رأسمال، أعلى راتب بأقل قدر من العمل، المكانة الأعلى بالالتزامات الأخف، حتى التلاميذ لا يرغبون في التعلم بل في حفظ بضعة أسطر هي ملخص المادة ثم الحصول على أعلى درجة.
منظور الصفقات الرابحة هذا يتتبّع إتمام الصفقة ولا يُعنى بالعلاقات المستدامة. إذا كان هذا الأسلوب يحطّ من جودة الحياة ككل إلى مستوى مزرٍ، فإنه دينيا يتضادّ مع مبدأ ليلة القدر الغيبيّة التي تستحث إنشاء علاقة دائمة، لا ملاحقة صفقة.
تلهّفت المخيلة الشعبية إلى الاتصال بالغيب وبالسماء، في غمرة التلهف حوّلت "طاقة القدر" إلى موضوع للمس والرؤية والقياس، قابل للاغتنام كصفقة. يمكن لكل ثقافة في كل زمن أن تُسقط خصائصها على موضوعات كهذه فوق زمنية وأن تتناولها بأدواتها المتوفرة، لكن إلى أي درجة تفقد هذه الثقافة صلتها بالموضوع الأصلي في غمرة تطبيعه واستيعابه؟ إلى أي درجة نفقد ليلة القدر إذا حاولنا لمسها، وتحديدها، واصطيادها كورقة يانصيب تربح المليون؟