فانظر : إلى كلام هؤلاء الأئمة ، وما حدث في زمانهم من الشرك، وأنه قد عم الابتلاء به في وقتهم ؛ ومعلوم أنه لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه ؛ وتأمل كلامه، في تخصيصه : دمشق، بما حدث فيها من الشرك، والأوثان، وتمنيه إزالة ذلك، وهي بلده، ومستوطنه .
وقال : ابن القيم رحمه الله، في كتابه : إغاثة اللهفان ؛ ومن أعظم مكائده - التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته - ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه، من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً، لها ظل ؛ ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله ؛ وكان أول هذا الداء العظيم، في قوم نوح، وأطال الكلام في ذلك - إلى أن قال :
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها، على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين ؛ كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج، عند المصلى، يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحته الطاحون، الذي عنده مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك، وكان صورة صنم في نهر : القلُّوط ينذرون له، ويتبركون به، وقطع الله سبحانه المسجد، الذي عند الرحبة، يسرج عنده، ويتبرك به المشركون، وكان عموداً طويلاً، على رأسه حجر، كالكرة، وعند مسجد درب الحجر : نصب قد بني عليه، مسجد صغير يعبده المشركون، يسر الله كسره .
فما أسرع أهل الشرك، إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت ؛ ويقولون : إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة، وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب، ويستلمونه .
ولهذا : أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ مصلى، كما ذكره الأزرقي في كتاب مكة، عن قتادة، في قوله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة:125] قال : إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم، ذكر لنا : من رأى أثره، وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه المشهور : بزاد المعاد، في هدي خير العباد ؛ لما ذكر غزوة الطائف، وقدوم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سألوه أشياء، وكان فيما سألوه : أن يدع لهم اللات ثلاث سنين، لا يهدمها ؛ واعتذروا : أن مرادهم بذلك، أن لا يروعوا نساءهم، وسفاءهم ؛ فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى .
قال : لما ذكر فوائد القصة، ومنها : أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، والطواغيت، بعد القدرة على هدمها، وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز : الإقرار عليها مع القدرة البتة ؛ وهكذا حكم المشاهد، التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً، وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته ؛ وكثير منها بمنزلة : اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركاً عندها، وبها، والله المستعان .
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد : أنها تخلق، أو ترزق، أو تحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها، وبها : ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع ؛ وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور لجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الإعلام ، واشتدت غربة الإسلام، وقلت العلماء، وغلبت السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن : لا تزال طائفة، من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك، والبدع، مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين .
ومنها : جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير إلى هذه المشاهد، والطواغيت، في الجهاد، ومصالح المسلمين ؛ فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت، التي تساق إليها، ويصرفها على الجند، و المقاتلة، ومصالح المسلمين ؛ كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة، والأسود ؛ وكذا : يجب عليه هدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً ؛ وله : أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين .
وكذا : الحكم في أوقافها ؛ فإن وقفها، والوقف عليها : باطل ؛ وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين ؛ فإن الوقف : لا يصح إلا في قربة، وطاعة لله ورسوله ؛ فلا يصح الوقف : على مشهد، ولا قبر يسرج عليه، ويعظم، وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ إلهاً من دونه وهذا لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم .
وقال الشيخ القاسم، في شرح درر البحار وهو من أئمة الحنفية، النذر : الذي يقع من أكثر العوام يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاًيا سيدي فلان إن رد غائب أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا باطل إجماع لوجه منها أن النذر للمخلوق لا يجوز ومنها أن ذلك كفر إلى أن قال - وقد ابتلى الناس بذلك لاسيما في مولد أحمد البدوي انتهى كلامه.
وقال الأذعري في : قوت المحتاج، شرح المنهاج وهو من أئمة الشافعية وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من مقصود العامة تعظيم البقعة والمشهد والزاوية أو التعظيم من دفن بها ممن ذكرنا أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد
فإن معتقدهم : أن لهذه الأماكن خصوصيتها بأنفسها ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب به النعماء . ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار، لما قيل : إنه جلس إليها، أو استند إليها عبد صالح ؛ وينذرون : لبعض القبور السرج، والشموع، والزيت، ويقولون : القبر الفلاني، والمكان الفلاني، يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول، من شفاء مريض، وقدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع : نذر المجازاة .
فهذا النذر، على هذا الوجه، باطل، لاشك فيه، بل نذر الزيت، والشمع، ونحوهما ،للقبور، باطل مطلقاً، من ذلك : نذر الشموع، الكثيرة العظيمة، لقبر الخليل صلى الله عليه وسلم، ولقبر غيره من الأنبياء، والأولياء ؛ فإن الناذر : لا يقصد بذلك، إلا الإيقاد على القبر، تبركاً وتعظيماً، ظاناً : أن ذلك قربه، وأكثر من ينذر ذلك، يصرح بمقصوده، فيقول لله علي كذا من الشمع مثلاً، يوقد عند رأس الخليل، أو على القبر الفلاني، أو قبر الشيخ فلان ؛ فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور، محرم، سواء انتفع به منتفع هناك، أم لا ؛ لان الناذر، لم يقصد ذلك، ولا مرّ بباله، بل قصده، وغرضه ما أشرنا إليه ؛ فهذا الفعل : من البدع الفاحشة التي عمّت بها البلوى ؛ وفيها مضاهاة لليهود والنصارى، الذين لعنوا في الحديث الصحيح، على تعاطيهم ذلك، على قبور أنبيائهم، عليهم السلام، انتهى .
فانظر : إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام، وغيرها، وأن الإسلام : قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً ؛ وأن هذه المشاهد والأبنية، التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها، وبها، حتى صار كثير منها، بمنزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندها وبها وهذا مما يبطل قولكم إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة ؛ ويبين : ؟أن أكثركم، قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات .
وأما قولكم : فنحن مسلمون حقاً، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدوا الدين، والملة المحمدية .
فنقول : قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس : كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله ؛ فما استغنى فقير، بقوله : ألف دينار، وما احترق لسان، بقوله : نار ؛ فإن اليهود أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول الله، لما دعاهم إلى الإسلام، قالوا : نحن مسلمون إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت النصارى المسيح وقالت : النصارى مثل ذلك ؛ وكذلك : فرعون، قال لقومه : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) [ غافر : 29 ] وقد : كذب، وافترى في قوله ذلك، وحالكم، حال أئمتكم، وسلاطينكم : تشهد بكذبكم، وافترائكم في ذلك ؛ وقد رأينا : لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام : اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم : سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى، وغيرهم ؛ وفيها : من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم .
وأولها : من عبيدك السلطان سليم، وبعد : يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه، مالا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان، على عباد الرحمن، نسألك : النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر : كلاماً كثيراً، هذا معناه، وحاصله .
فانظر : إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى، واللات، فإنهم : إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات .
فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتباً كثيرة، في الحجرة، للعامة، والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه، وقد ورد في الحديث، الذي رواه أبو داود، وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال :" من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
فأهل السنة والجماعة : هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل زمان، ومكان ؛ وهم : الفرقة الناحية، كالصحابة، والتابعين، والأئمة، والأربعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة ؛ وقد بعث الله جميع رسله بتوحيده، ورفع مناره، وطمس الشرك، ومحو آثاره ؛ ومن أعظم الشرك والضلال : ما وقع في هذه الأمة ، من البناء على القبور، ومخاطبة أصحابها بقضاء الأمور، وصرف : كثير لها من العبادات، والنذور ؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم هل تجد في عصره، بناء على قبر صالح ؟ أو ولي ؟ أو شهيد ؟ أو نبي ؟ بل : نهى عن البناء على القبور، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره .
وكذلك : أصحابه من بعده، فتحوا الشام، والعراق، وغالب أقطار الأرض، فهل : تجدون أحداً منهم بنى على قبر أو دعاه ؟ أو استغاث به ؟ أو نذر له ؟ أو ذبح له ؟ أو وقف عليه وقفاً ؟ أو أسرج عليه ؟ بل : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك، والتغليظ فيه، ولعن من فعله، كما ثبت عنه أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن لا يدع ثمثالاً إلا طمسه، ولا قبراً مشرفاً إلا سواه، رواه مسلم، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، يقول - إذا نزلت بهم ترة، أو عرضت له حاجة - لميت، يا سيدي : فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم، من المونى، والغائبين ؛ ولا أحد من الصحابة : استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها .
بل : لما قحط الناس، في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك، إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون ؛ فهذا : توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته ولهذا توسلوا بعد وفاته بدعاء العباس، وهذا كله : تحقيق لما بعث الله به ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة، بجميع أنواعها لله وحده، ، الذي هو حقيقة معنى : لا إلَه إلا ّ الله ؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، وقد قال تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) [ النساء :171] وقال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة :31] فاتخاذ الأحبار، والرهبان : أرباباً، هو من فعل اليهود، والنصارى . وقال غير واحد من العلماء : إن من أسباب الكفر، والشرك : الغلو في الصالحين، كعبد القادر، وأمثاله ؛ بل : الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في الأنبياء، كالمسيح، وغيره ؛ فمن غلا في نبي، أو ولي، أو جعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول : يا سيدي فلان، أغثني، أو انصرني، أو أنا في حسبك، فكل هذا : شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإنه تاب وإلا قتل .
قال : ابن القيم رحمه الله، في شرح : المنازل، ومن أنواع الشرك : طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا : أصل شرك العالم - إلى أن قال - وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعاد المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله / قال : وما أعز من تخلص من هذا ؛ بل : ما أعز من لا يعادى من أنكره .
وأما : قولكم، وأما ما اعترينا، وما ابتلينا به من الذنوب، فليست : أول قارورة كسرت في الإسلام / ولا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج، من الفرق الضالة، الذين عقيدتهم، على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة .
فتقول : نحن بحمد الله، لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفر لهم، بما نص الله، ورسوله، وأجمع عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة : أنه كفر ؛ كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء ونذر وذبح، وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به، وأما :الذنوب، كالزنى، والسرقة، وقتل النفس، وشرب الخمر، والظلم ونحو ذلك، فلا نكفر من فعله، إذا كان مؤمنا بالله ورسوله ؛ إلا إن فعله مستحلاً له، فما كان من ذلك فيه حد شرعي، أقمناه على من فعله، وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه وأمثاله عن ارتكاب المحرمات .
وقد : جرت المعاصى، والكبائر، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا : مما رد به أهل السنة والجماعة، على الخوارج، الذين يكفّرون بالذنوب، وعلى المعتزله، الذين يحكمون بتخليده في النار، وإن لم يسموه كافراً، ويقولون : ننزله منزلة، بين المنتزلين، فلا نسميه كافراً، ولا مؤمناً، بل فاسقاً ؛ وينكرون : شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويقولون : لا يخرج من النار أحد دخلها، بشفاعة، ولا غيرها .
ونحن : نحمد الله ،برءاء من هذين المذهبين، مذهب الخوارج، والمعتزلة ؛ ونثبت شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، والصالحين، ولكنها لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28 ] وقال : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] فذكر في الشفاعة شرطين، أحدهما : أنها لا تكون إلا بعد الإذن من الله للشافع، لا كما يظنه المشركون، الذين يسألونها من غير الله، في الدنيا .
وقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتهم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا ينفع الشفاعة عند إلا لمن أذن له ) [ سبأ : 22-23 ] قال ابن القيم، رحمه الله تعلى، في الكلام على هذه الآية : وقد قطع الله سبحانه الأسباب، التي يتعلق بها المشركون جميعها، قطعا، يعلم من تأمله، وعرفه : أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعاً، فمثله : ( كمثل العنكبوت اتخذ بيتا وأن أوهن البيت لبيت العنكبوت ) [ العنكبوت :41 ]
فالمشرك : إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة، من هذه الأربع : إما : مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكاً، كان شريكاً للمالك، فان لم يكن شريكاً، كان معيناً أو ظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً ،كان شفيعاً عنده، فنفى سبحانه : المراتب الأربع، نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يطلبها المشرك ؛ وأثبت : شفاعة، لا نصيب فيها لمشرك، وهى : الشفاعة بإذنه .
( ص310) فكفى بهذه الآية : نوراً، وبرهاناً، ونجاة، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً : لأصول الشرك، ومواده، لمن علقها ؛ والقرآن : مملوء من أمثالها، ونظائرها، ولكن أكثر الناس، لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثاً ؛ وهذا : هو الذي يحول بين القلب، وبين فهم القرآن ؛ ولعمر الله : إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم، ودونهم ؛ وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك .
ولكن : الأمر، كما قال : عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إنما تنقض عرى الإسلام، عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أي : لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن، وذمه، وقع فيه، وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف : أنه هو الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنقص بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع : بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفارقة الأهواء، والبدع ؛ ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عياناً ؛ وبالله التوفيق، انتهى .
وهذا : الذي ذكره غير واحد، عن أئمة العلم، من تغير الإسلام، وغربته، قد : أخبر به الصادق المصدق، صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم، أنه قال : " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " وفي حديث ثوبان، الذي في صحيح مسلم وغيره " ولا تقوم الساعة، حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان " وفي حديث العرباض، بن سارية، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إنه من يعش منكم، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه ضلالة " أخرجه :أبو داود، وغيره، وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس، حول ذي الخلصة ".
وهذا : الذي تقدم ذكره، من كلام أهل العلم، من حدوث الشرك، وغيره، من البدع في هذه الأمة وكثرته، هو : مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث ، وغيرها .
وأما قولكم : فكيف التجري بالغفلة، على إيقاظ الفتنة، بتكفير المسلمين، وأهل القبلة، ومقاتلة قوم، يؤمنون بالله، واليوم الأخر ، واستباحة أموالهم، وأعراضهم، وعقر مواشيهم، وحرق أقواتهم، من نواحي الشام .. الخ ؟
فنقول : قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل، ونكفر من أشرك بالله، وجعل لله نداً، يدعوه كما يدعو الله، ويذبح له، كما يذبح لله، وينذر له، كما ينذر لله، ويخافه، كما يخاف الله، ويستغيث به عند الشدائد، وجلب الفوائد، ويقاتل دون الأوثان، والقباب المبنية على القبور، التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله ؛ فإن كنتم صادقين في دعواكم : أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله، من جميع الشرك والبدع ، وحققوا قول : لا إلَه إلا ّ الله، محمد رسول الله .
ومن صرف : من أنواع العبادة، شيئاً لغير الله، من الأحياء، والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه : أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام، فإن لم ينته عن ذلك، إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله ؛ وقوموا على رعاياكم : بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد، فإن تخلف أحد، فأدبوه ؛ وكذلك : الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها، الذين أمر الله بصرفها إليهم .
فإذا فعلتم ذلك : فأنتم إخواننا، لكم مالنا، وعليكم ما علينا، يحرم دماؤكم، وأموالكم، وأما : إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله، الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك، والبدع، والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك، حيث يقول : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال :39] وقال تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتووا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [ التوبة :5] .
ونسأل الله العظيم : أن يهدينا، وسائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينه القويم، ويجنبنا طريق : المغضوب عليهم، والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حرر في : اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة سنة خمس وعشرين [ ومائتين وألف من الهجرة ] .
انتهى