الفكر الاستشراقي بعد الحروب الصليبيه
لقد كانت الكنيسه في اوروبا – كما ذكرنا – من وراء كل المواقف المضاده للإسلام، منذ دخل هذا الدين تلك القاره، فقد بذلت كل ما استطاعت من جهد في سبيل الحيلوله بين الأوربيين و الوقوف على تعاليم الإسلام و آدابه، و لكنها على ما بذلت لم تحقق ما سعت إليه، و ظل الأوربيون يقبلون على تعلم العربيه، و الهجره إلى مواطن الثقافه الإسلاميه، و ظل الفكر الإسلامي له تأثيره في عقول الأوربيين و مشاعرهم، فهم ما زالوا يدرسونه، و يترجمون آثاره، بل تضاعف نشاطهم في هذا..
و لما بدا للكنيسه أن ما قامت به لم يكفل لها بلوغ الغايه في مقاومه المد الإسلامي فكرياً و حضارياً، اتجهت نحو إثاره العامه ضد المسلمين، و شد أزرها في هذا بعض النبلاء و الحكام الطامعين في كنوز الشرق و خيراته، و أتاح التمزق الذي شهده العالم الاسلامي في القرن الخامس الهجري، و ظهور بعض الدول المستقله عن الخلافه في بغداد، للكنيسه فرصه تحويل تلك الإثاره إلى حملات مسلحه تعبر البحر المتوسط لمهاجمه المسلمين في الشرق تحت ستار حمايه الصليب، و انقاذ القبر المقدس من أيدي البرابره المتوحشين، أي المسلمين، كما كانت تعبر عنهم الكنيسه. و تعددت الحملات التي عرفت باسم الحملات الصليبيه، لأن الصلبان و زعت على الحاضرين في مجمع كلرمونت سنه: 1095 م، حيث ألقى البابا أوريان الثاني موعظته التي حث فيها العالم المسيحي على الحرب، لتخليص القبر المقدس من المسلمين، و وعدهم بأن تكون رحلتهم إلى الشرق غفراناً كاملاً لذنوبهم، كما وعدهم بهدنه عامه تحمي بيوتهم في أثناء غيبتهم. و كانت هذه الموعظه الشراره التي أشعلت نار الحملات الصليبيه التي استطاعت أن تحتل منطقه الشام، و تدخل القدس، و ترتكب من الجرائم البشعه ما لايصدقه عقل، إذ قتل نحو سبعين ألفاً من المسلمين في المسجد الأقصى، ما بين رجل و أمراه و طفل، حتى خاضت الخيول في دماء الشهداء. و مكث الصليبيون في أرض الإسلام نحو مئتي عام، و تمكن صلاح الدين بعد أن وَحَّد بين البلاد العربيه من أن يهزم هؤلاء البغاه في موقعه حطين سنه 583 هـ، و كانت هذه الهزيمه بدايه نهايتهم و طردهم من ديار الاسلام. و على الرغم من أن الصليبين عرفوا المسلمين عن كثب، و نقلوا كثيراً من مؤلفاتهم العلميه، و انتفعوا بها في بلادهم، على الرغم من كل هذا لم تتغير صوره الإسلام و المسلمين لدى أوربا، و ظلت مشاعر التعصب متأججه في نفوس أهلها، و زادت الهزيمه في حطين من مواقف العداء، و أيقن الأوربيون أن الإسلام هو مصدر الخطر على مطامعهم في الشرق، و مع هذا تعد نهايه الحملات الصليبيه بدايه مرحله جديده للفكر الاستشراقي امتدت إلى نحو منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، و قد تميزت هذه المرحله بما يلي:
اولاً: أدرك الغرب من خلال حروبه الصليبيه أن الشرق يتفوق عليه فكرياً و حضارياً و اقتصادياً، و أنه يجب على الغربيين أن يسيروا في نفس الطريق الذي سارت فيه شعوب الشرق، لكي ينهضوا و يتقدموا.
ثانياً: تضاعف الاهتمام باللغه العربيه، و إنشاء الكراسي العلميه الخاصه بها، كما تضاعف الاهتمام بإنشاء المدارس و المعاهد و الجامعات لدراسه الحضاره الإسلاميه، و كانت المؤلفات العربيه في مجال العلوم الهندسيه و الفلكيه و الطبيه و الفلسفيه تدرس في هذه الجامعات التي أنشئت تقليداً مطلقاً للجامعات الإسلاميه في الأندلس و صقليه، و ظلت تلك المؤلفات ماده البحث و الدراسه الجامعيه لنحو سته قرون6.
ثالثاً: قويت حركه نقل التراث العربي إلى أوربا، و تسابق أهلها في الحصول على اكبر قدر منه، و اشترك في هذا الحكام و المستشرقون و بعض الرحاله و المغامرين الذين كانوا يلجأون إلى السرقه و الخداع و التضليل.
و ما كان كل هؤلاء فيما يسعون إليه ينتقون من هذا التراث، و إنما كانوا يجمعون منه ما تصل إليه أيديهم، ثم يقومون بتصنيفه بعد نقله إلى بلادهم. و لعل تفرق أجزاء الكتاب الواحد في أكثر من مكتبه في العالم، أو فقد بعض هذه الأجزاء يرجع إلى ذلك.
لقد ذكر «فيليب دي طرازي / ت: 1956 م» في الجزء الثاني من موسوعته «خزائن الكتب العربيه في الخافقين .. أن في بعض مكتبات لبنان مخطوطه من كتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان، على هامشها حاشيه بقلم قنصل فرنسا في بيروت في منتصف القرن السابع عشر، خلاصتها أنه في سنه 1671 م أرسل عالي الجناب الملك لويس الرابع عشر رسله إلى بلدان الإسلام لشراء المخطوطات، و زود مبعوثيه بأوامر شريفه إلى جميع القناصل الفرنسيه ليضعوا رجالهم و أموالهم في خدمه هذه الغايه.
و قام المستشرق الإنجليزي إدوارد يوكوك (ت: 1691 م) الذي عاش خمس سنوات في مدينه حلب السوريه مبشراً، برحله إلى الآستانه: 1637، و جمع مجموعه نفسيه من المخطوطات العربيه، و هي التي تكوّن الآن قسماً من أثمن المخطوطات في المكتبه البودليه في اكسفورد7.
كذلك قام المستشرق الهولندي يعقوب جوليوس (ت: 1667 م) برحلتين إلى المغرب الأقصى و سوريه اشترى فيهما كثيراً من المخطوطات العربيه، و نقلها إلى مدينه ليدن، و نشر بعضها بين سنوات: 1623-1656.
لقد نقل الأوربيون آلاف المخطوطات من العالم الإسلامي، و سلكوا في سبيل ذلك طرقاً متباينه، منها السرقه، و التودد إلى بعض القائمين على المكتبات بالهدايا، و التظاهر باعتناق الإسلام، و إبداء الرغبه في الاطلاع على ما خطته أقلام العلماء المسلمين.
و كانوا بعد نقل تلك المخطوطات إلى أوربا يصنفونها و يفهرسونها، و قد ساعد الاستشراق في هذا بعض علماء الشرق الذي استقدموا لهذه المهمه، كما قاموا بترجمه الكثير مما نقلوه، و خاصه ما يتصل منه بالعلوم الرياضيه و الطبيه إلى اللاتينيه، ثم إلى اللغات الأوربيه، و طبع بعضه بالعربيه بعد اختراع الطباعه.
و الذي لا مراء فيه أن التراث الإسلامي الذي نقل إلى أوربا قد أسهم بدور فعال في انبثاق عصر النهضه، و اخراج أوربا من ظلمات العصور الوسطى، و لكن الأوربيين كانوا يتجاهلون فضل المسلمين عليهم، و كانوا، في مؤلفاتهم التي أخذت عن الكتب العربيه، أو ما ترجم منها، يزعمون أنهم لم يعتمدوا على مصادر عربيه8، و كشفت الدراسات العلميه المعاصره عن انتحال الأوربيين لمؤلفات و آراء مفكري الإسلام في تلك المرحله من مراحل الاستشراق، فقد اثبتت مثلاً أن هارفي (ت: 1657 م) الذي ادعى أنه أول من اكتشف الدوره الدمويه، قد ترجم ترجمه حرفيه من اللاتينيه التي نقل إليها ما قاله ابن النفيس (ت: 687هـ=1288 م) في هذا الموضوع، فهذا العالم المسلم الذي سبق هارفي بنحو أربعه قرون هو أول من اكتشف هذه الدوره في تاريخ الطب، و ليس ذلك الدعي الذي انتحل ما ليس له.
رابعاً: و إذا كانت الكنيسه في المرحله الأولى للاستشراق قد جندت بعض الرهبان لدراسه الإسلام، بقصد تنفير الأوربيين منه، و إذا كانت أيضاً قد أنشأت بعض المدارس لتخريج من يتصدى لتأثير الإسلام النفسي على الأوربيين، فإنها في المرحله الثانيه قررت مواجهه هذا الدين على نطاق واسع، ولا سيما بعد أن فتح الأتراك مناطق البلقان، و حاصروا فينا و إنها بعد أن نجحت في العمل على انحسار المد الإسلامي في شبه جزيره أسبانيا لم تنسَ هزيمتها المنكره في حطين، و أزعجها المد الجديد للإسلام في شرق أوربا، و أخذت تخطط لمقاومه الإسلام لا بين الأوربين فحسب، و انما بين المسلمين أنفسهم. فأكثرت من إنشاء المدارس و المعاهد التي تدرس العربيه و العقيده الإسلاميه، لإعداد مبشرين يعلمون على تنصير المسلمين، أو تشكيكهم فيما هم به يؤمنون، و من ثَمَّ عرفت هذه المرحله الاستشراقيه التبشير بالمسيحيه بين المسلمين، و كان يرحل من أجل ذلك إلى البلاد الإسلاميه بعض المستشرقين لجمع المخطوطات من جهه، و للتبشير من جهه أخرى، و أصبحت شخصيه المستشرق تجمع بين الباحث و المبشر، و من هؤلاء من أقام في بلادنا عده أعوام لتلك المهمه.
و يعد بطرس الكلوني (ت: 1156 م) أول راهب متحمس لحرب المسلمين عن طريق السلاح و الفكر، و كان في رسائله للملوك الصليبين يدعو إلى تنصير المسلمين، فذلك أنفع للمسيحيه من قتلهم، و لهذا كان يعتقد أن المهمه الأولى للحروب الصليبيه هي تنصير المسلمين، و لكنها تحولت إلى عمل سياسي و عسكري، ففقدت بذلك القيام برسالتها، و أرجع بطرس فشل هذه الحروب في القيام بما كان يجب عليها أن تقوم به إلى جهل المسيحيين بحقيقه الدين الإسلامي، و لذا أوجب على نفسه، و حض سواه، على دراسه الإسلام و محاجه المسلمين، و اقناعهم بالتخلي عن الإسلام و اعتناق المسيحيه. و كان مما قام به بطرس للتبشير بالمسيحيه بين المسلمين تكليف مجموعه من المترجمين لترجمه بعض الكتب، للتعرف على الإسلام و دراسه تعاليمه، و لكن هذه الكتب التي ترجمت ألفها يهود متنصرون، أو نصارى مستعربون، و من ثَمَّ كانت أبعد ما تكون عن الإسلام الحقيقي، بل هي إلى الأساطير أقرب منها إلى الدراسه العلميه.
و من هذه الكتب و نحوها اطلع الغرب على الاسلام، و ترسب في وجدان الأوربيين أن هذا الدين محض افتراء، و أن الذين يؤمنون به و يجاهدون في سبيله قوم مضللون، و أن على الكنيسه أن تتصدى لهذا الدين لا بسيف الحرب، و إنما بسيف التبشير بالإنجيل و التنصير، و مع ما بذله أمثال بطرس الكلوني و غيره من الحانقين و الحاقدين من جهد في سبيل التبشير بالمسيحيه لم يحقق التبشير مهمته، و لم ينجح في أن يدخل في المسيحيه مسلماً واحداً، بيد أن هذا النشاط التبشيري – و إن أخفق في مهمته – لكن ترتب عليه التواسع في دراسه الدين الإسلامي، و لغه القرآن، و ترجمه الكثير من المؤلفات الإسلاميه إلى اللاتينيه، ثم إلى بعض اللغات الأوربيه، و ترجمه الكتاب المقدس إلى اللغه العربيه.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------
* يتبع..........
|