قصة قصيرة (:
::
(( مات )) ,, التصق به هذا الاسم كـ ميدالية معلقة على صدره تذكيرا له بـ (( هبة الموت )) ,,
والتي كادت ألا تخطأه هذه الهبة أثناء عملية الولادة المتحشرجة ,,
(( مات )) ,, خرج إلى الحياة على استحياء شديد كاد يخنقه موتا !
لكنه تمكن من الوصول بـ سلام على أرض الحياة ,,
وإن كان مختلفا بعض الشيء عن أمثاله ممن يولدون كل يوم في هذا المستشفى ,,
فمعركة البقاء التي خاضها في طريقه للنور ,, سلبت منه نصف (( الحياة )) ,,
أي نعم خرج منتصرا لكنها الحرب والتي لم تكن يوما بدون خسائر ,,
ضريبة الانتصار ,, تذكرة الدخول إلى معترك الحياة ! ,, سُلب منه الإحساس من نصفه السفلي ,,
شُلّ قبل أن يتنفس !
:::
الغريب أن مسئولي الأحوال المدنية لم يمانعوا هذا الاسم ,,
فيبدو أنهم وجدوا في قصة ولادته سببا وجيها يجعلهم يمررون هذه الجريمة ,,
وكم من مولود لاحقته لعنات الأسامي الغريبة بسبب هذا التسيب ,,
أما هنا فكان اسم (( مات )) أصداء نبوءة لم يلتفت لها أحد ,,
:::
" ماما ليش ما اقدر اسوي زي اخواني اجري واقفز ؟ "
" ماما ردي عليا ليش ما اقدر اوقف طيب ؟ "
ببراءة الكون (( مات )) يتسائل عن كونه مقعد ,, كـ عادة الأطفال الصغار حين يبدأون
في استكشاف أسرار الحياة والتساؤل عن سبب قرص الناموس لهم أثناء النوم ,,
لا جواب قد يروي عطش تساؤله ,, أو يبرر عجزه !
في حين أن الأطفال في عمره يجربون لذة الخطوة الأولى وقضاء الحاجة في الحمام دون مساعدة أحد ,,
يبقى (( مات )) أسيرا لأحزانه ,, والتي تراكمت عليه بتراكمات السنين والتي غذته
حتى استطالت عظامه ونضج وعيه ,, ليعي أنه أقل من غيره بدنيا ,, أضعف جسديا ,,
مشلول ,, أو من ذوي الاحتياجات الخاصة كما يُطلق على أمثاله في وسائل الإعلام
تخفيفا من حدة الكلمة ,, وكأن ذلك سيغير من الأمر شيئا ,,
:::
" يا مسكين أتحداك توقف ولك اللي تبغاه "
هكذا تحداه أحد الفتية مازحا ,, مجرد كلمات استحالت إلى لكمات في صدر (( مات )) ,,
كانت تلك الحروف تطعن في قلبه كلما تذكر ذاك الموقف والصبيان من حوله يتضاحكون ويسخرون ,,
يأخذون منه عصير التفاح المفضل لديه وشيبس تسالي ويتقاذفونها فيما بينهم وهي تعبر من أمامه
ولا يفصل بينها وبين يده سوى خطوة ! ,, لكم أن تتخيلوا كيف لانسان تُختزل سعادته في (( خطوة )) !
:::
انتهى من كتابة ما في خاطره ,,
ثنى الورقة في جيبه ,,
حزم أمره ,,
شد بيده على الحبل ,,
ردد (( سأقف اليوم مهما كلف الأمر )) ,,
رمى به عاليا ,,
يتدلى أمام عينيه طرفي الحبل ,,
عقدهما ,,
لف الحبل حول رقبته ,,
تشبث بهما بكل ما تختزنه يداه من قوة وقهر ,,
قبض عضلات ساعديه ,,
صرخ (( سافعلها اليوم )) ,,
برزت عروق دمه ,,
صعد قليلا ,,
فارق كرسيه ,,
بالكاد تلامس أخمص قدميه الأرض ,,
بدأ في التأرجح ذهابا وأيابا ,,
انحرف عن موضعه ,,
الكرسي بعيد ,,
كان قد ارتفع كثيرا ,,
رشح بيديه يمنعه من الصمود أكثر ,,
انزلق للأسفل قليلا ,,
لم يقوى على الاستمرار ,,
عجز يتسلل إلى يداه ,,
يضغط الحبل على حنجرته ,,
يحاول الصراخ ,,
تقاوم رئتيه ,,
يتلاشى نبضه شيئا فـ شيئا ,,
تصعد روحه !
:::
" الحقي على ولدك (( مات )) الحقي عليه "
بكل قلق الأمومة تسأل :
" وش صار فيه "
بصوت اللاهث من هول الفاجعة :
" (( مات )) واقف "
صدمة المفاجأة تلعثم حروفها :
" كـ كـ ,, كيف (( مات )) واقف معقولة ! ,, يا ولدي انت تستهبل "
" يا أم (( مات )) أقولك ولدك مات واقف ! "
:::
وفي وقوفه حياة
عاش واقفا
للحظة
ثم رحل
كما تمنى
واقفا
::
انتهى