لحلقة الثانية
مع بزوغ الفجر صمت الصمت ورفعت تلك الفتاة محياها يا للروعة آية من الجمال في حسنها يستتر حزن عميق بل أحزان العالم ، عينان أضناهما السهر والبكاء الصامت كوردة أضعفها بائع الورد وهو يبللها كل يوم لتحافظ على رطوبتها.
أقفلت الباب واقتربت من النافذة وفي الطرف الأيمن منها رفعت الستارة لترى زهور حديقتها التي طالما شهدت جل فصول القصة ، غافلها النور إلى عينيها الذابلتين ليسلط ومضة أفقدتها الرؤية لثوان وكأنها لم تر النور منذ دهرٍ .
عادت أدراجها وجلسة على كرسي مكتبها المذهب وكأنه من كراسي لويس الخامس عشر آخر ملوك فرنسا ، جلست ورفعت رأسها لأعلى لتستعيد توازنها الذهني ، عادة بنظرها لتجول في أرجاء الحجرة وتستقر على صندوق خشبي بجانب تسريحتها لملمت شتاتها وأخذت نفساً ، وفتحت الصندوق لتقع عيناها الذابلتان على مغلف الرسائل أمسكت به مازال العطر يفوح منها وكأنها كتبت اليوم وعطرت اليوم وأرسلت اليوم ! فتحت إحدى الرسائل علَها تجد ما أرضاً تقف عليها وتخرجها من حالة اللاوعي التي تعيشها ، هذه أحدى رسائله الأولى
يا سيدتي :
كنت أهم امرأةٍ في تاريخي
قبل رحيل العام .
أنت الآن.. أهم امرأةٍ
بعد ولادة هذا العام..
أنت امرأةٌ لا أحسبها بالساعات وبالأيام.
أنت امرأةٌ..
صنعت من فاكهة الشعر..
ومن ذهب الأحلام..
أنت امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي
قبل ملايين الأعوام
يا سيدتي :
يا لمغزولة من قطنٍ وغمام.
يا أمطاراً من ياقوتٍ..
يا أنهاراً من نهوندٍ..
يا غابات رخام..
يا من تسبح كالأسماك بماء القلب..
وتسكن في العينين كسرب حمام .
لن يتغير شيءٌ في عاطفتي..
في إحساسي..
3
يا سيدتي:
لا تهتمي في إيقاع الوقت وأسماء السنوات.
أنت امرأةٌ تبقى امرأةً.. في كل الأوقات .
سوف أحبك..
عند دخول القرن الواحد والعشرين..
وعند دخول القرن الخامس والعشرين..
وعند دخول القرن التاسع والعشرين..
و سوف أحبك..
حين تجف مياه البحر..
وتحترق الغابات..
4
يا سيدتي:
أنت خلاصة كل الشعر..
ووردة كل الحريات.
يكفي أن أتهجى اسمك..
حتى أصبح ملك الشعر..
وفرعون الكلمات..
يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلك..
حتى أدخل في كتب التاريخ..
وتُرفع من أجلي الرايات..
5
يا سيدتي
لا تضطربي مثل الطائر في زمن الأعياد.
لن يتغير شيءٌ مني .
لن يتوقف نهر الحب عن الجريان.
لن يتوقف نبض القلب عن الخفقان.
لن يتوقف حجل الشعر عن الطيران.
حين يكون الحب كبيراً..
والمحبوبة قمراً..
لن يتحول هذا الحب
لحزمة قشٍ تأكلها النيران...
6
يا سيدتي:
ليس هنالك شيءٌ يملأ عيني
لا الأضواء..
ولا الزينات..
لا يعني لي الشارع شيئاً.
لا يعنيني أي كلامٍ
يكتب فوق بطاقات الأعياد.
7
يا سيدتي:
لا أتذكر إلا صوتك
لا أتذكر إلا عطرك
حين أنام على ورق الأعشاب.
لا أتذكر إلا وجهك..
حين يسقط فوق ثيابي الثلج..
وأسمع طقطقة الأحطاب..
8
ما يفرحني يا سيدتي
أن أتكوم كالعصفور الخائف
بين بساتين الأهداب...
9
ما يبهرني يا سيدتي
أن تهديني قلماً من أقلام الحبر..
أعانقه..
وأنام سعيداً كالأولاد...
10
يا سيدتي:
ما أسعدني في منفاي
أقطر ماء الشعر..
وأشرب من خمر الرهبان
ما أقواني..
حين أكون صديقاً
للحرية.. والإنسان...
11
يا سيدتي:
كم أتمنى لو أحببتك في عصر التنوير..
وفي عصر التصوير..
وفي عصر الرواد
كم أتمنى لو قابلتك يوماً
في فلورنسا.
أو قرطبةٍ.
أو في الكوفة
أو في حلبٍ.
أو في بيتٍ من حارات الشام...
12
يا سيدتي:
كم أتمنى لو سافرنا
نحو بلادٍ يحكمها الغيتار
حيث الحب بلا أسوار
والكلمات بلا أسوار
والأحلام بلا أسوار
13
يا سيدتي:
لا تنشغلي بالمستقبل، يا سيدتي
سوف يظل حنيني أقوى مما كان..
وأعنف مما كان..
أنت امرأةٌ لا تتكرر.. في تاريخ الورد..
وفي تاريخ الشعر..
وفي ذاكرة الزنبق والريحان...
14
يا سيدة العالم
لا يشغلني إلا حبك في آتي الأيام
أنت امرأتي الأولى.
أمي الأولى
رحمي الأول
شغفي الأول
شبقي الأول
طوق نجاتي في زمن الطوفان...
15
يا سيدتي:
يا سيدة الشعر الأولى
هاتي يدك اليمنى كي أتخبأ فيها..
هاتي يدك اليسرى..
كي أستوطن فيها..
قولي أي عبارة حبٍ
حتى تبتدئ الأعياد .
بعد قراءة هذه الكلمات أغلقت عيناها وأعقبتها زفرت كبيرة عمرها عشرون عاماً .
وتبدأ القصة عندما سافر خالد وكان عمره آنذاك ثلاثة وعشرون عاماً لإكمال دراساته العليا في اللغات الأوروبية وآدابها في أسبانيا .
كان شاباً يافعاً على قدر عالٍ من الوسامة بل الجمال لا بد أن يلفت نظرك إدا إذا وقع في مجاله ، عنيناه الواسعتان تنبؤك بذكاءٍ حادٍ وجاذبية لا تقاوم ، طويل القامة معتدلاً في مشيته وكأنه من فرسان اليونان .
وصل خالد إلى مطار مدريد الدولي ، كانت أموره مرتبة بعناية فهو لا يقدم على خطوة دون دراستها ، وذهب إلى سكن أخذ عنوانه من أحد أصدقائه الذين سبقوه في هذا المجال ، لم يكن السكن كبيراً ، لكنه جميل ذو صبغة أندلسية في بعض أثاثه .
بدأ العام الدراسي وهاهو خالد بين الكتب والمحاضرات ، وأوراق البحث ومن شارع لأخر يتنقل بين المكتبات وقد أصبح شارع كاستيانا الشارع الرئيس له لوجود المكتبة الوطنية في هذا الشارع .
مر عام كامل اجتاز خالد مواده الأولى بتفوق وكان مصدر فخر لكل معلميه خاصة ذوي الأصول العربية . ورغم أنه كان يتعرض لكثير من نظرات الإعجاب من قبل زميلات الدراسة ، بل كان يصل الأمر إلى حد التصريح بذلك الإعجاب من قبل كل من تجد فرصة للحديث معه ، ولكن خالداً كان حذراً جداً في علاقاته وكان على مسافة واحدة من كل زملاء الدراسة والذين له صلة به .
لم يكن لدى خالد صاحب الطموح العالي الوقت ليطلق سراح مشاعره ويتبعها حيث تأخذه ، كان التعليم لديه مقدساً ، ولا يعادله شيء آخر . ولكن الأمور ليست كما كان يخطط لها .
لقد شعر بجسمه تعلوه رهبة ساحرة وقف قلبه ، ووقف الزمان والمكان في تلك اللحظة التي رآها فيها , وكأنها كانت تنتظره منذ أزمان ، نعم أنها هي التي استطاعت أن تحرك مشاعره ، هذه الأسبانية الفارعة الطول ، ذات الشعر المموج بعينين فرنسيتين ، وجسم إيطالي ، وملاحة عربية . توقف خالد أمامها وتعطلت كل دفاعاته .
بين أرفف المكتبة الوطنية بينما كان يهم بأخذ كتاب ووضع يده سبقته يدٌ رقيقة فوضع يده عليها دون قصد ، ورفع عيناه فوقعت مباشرة في عينيها ، في هذه اللحظة ساد صمت رهيب ، ونسي أنه يضع يده فوق يدها على نفس الكتاب لحظات من الـتأمل البريء – لكنه علم ما وراء الطبيعة – جاذبية الاثنين كقوتين عظميين اجتمعتا .
خالد : آسف لم أقصد لقد كنت ......... لم يستطع أن يكمل جملته .
كانت بقدر ذكائه وفهمت أنه حب أبدي لا مفر منه .
ردت بهدوء : لا عليك فقط كنت أتسلى فهو يوم عطلتي ، ولكن لا بدوا أنك من هنا ، كانت تحاول أن تخلق حواراً بأي شكل من الأشكال . وكذلك هو .
أكملت الحديث : يمكنك أخذ الكتاب إذا شئت
أجاب خالد : لا لا خذيه أنت وضعت يدك عليه أولاً
أجابت : ولكن ربما تكون أحوج إليه مني ، وعموماً لابد أن تكون هناك نسخ أخرى منه ، سوف أبحث عنها .
استدارت وعيناه لا تفارقها نظر إلى الكتاب في مكان يدها في اللحظة التي التفتت إليه ولم ينتبه لالتفاتتها ، وكذلك هي .
استجمع شجاعته لمناداتها لكنه لم يستطع أحس بأن أنفاسه لم تعد إليه بعد تجولت في المكتبة ثم خرجت كانت تتمنى أن تكلمه وهو كذلك .
خرج خالد بسرعة وراءها لكنها اختفت لم يجدها وكأنها سحر ، الشارع واسع لا يمكن أن تذهب بهذه السرعة ، عاد إلى السكن بعد أن جال في المكان عله يراها ولكن دون جدوى ، أمتلكه في تلك الليلة لوم رهيب للذات ، كيف ضاعت لقد شعرت بروحها تسكن روحي أين ذهبت بهذه السرعة .
وفي المكتبة هناك وبعد لحظات من خروج خالد ، فيها كانت ( كارمن ) داخل دورات المياه تتأكد من جمالها أمام المرآة ، وتستجمع جرأتها للتحدث ثانية معه وعندما خرجت لم تجده تملكتا الحسرة ، فهي لم تشعر بدفء أحدٍ كدفء يده ، لم يوقظ أنوثتها أحد ، كما فعل هو . لم تنم طوال الليل تسترجع الموقف بينهما مراراً وتكراراً وتتلذذ بلحظة عابرة قد لا تعود ، وهو كذلك ؟
ترى هل سيراها خالد مرة أخرى ؟ كيف ؟ ومتى ؟
في اليوم الثاني عاد خالد إلى نفس المكتبة مبكراً وعند دخوله ........... يتبع