عرض مشاركة واحدة
منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز
قديم 15-10-2003, 07:36 PM   #2

الريادة

مشرف سابق

الصورة الرمزية الريادة

 
تاريخ التسجيل: Oct 2003
التخصص: ادارة واقتصاد/ محاسبة
المشاركات: 225
افتراضي

*(تكملة)


سأل أحمد:

- وسكت سليمان؟ أمّا أنا فأموت ولا أسكت على الظلم.

تلفّت الأستاذ خالد حواليه، ثم قال:

- دعونا مع الشيخ الجوسقي أرجوكم.

تغامز الطلاب وتهامسوا وهم ينظرون إلى أستاذهم، ثم قال أحمد:

- نعم يا أستاذ..

استأنف الأستاذ خالد كلامه عن الطالب الأعمى المشاغب وقال:

- ولكنّ الفتى سليمان أسرَّ في نفسه أمراً، وراح يغذّيه وينمّيه لدى زملائه الطلاب الفقراء عامة، والعميان خاصّة.

سأل أحمد:

- كيف؟.

قال الأستاذ:

- كان سليمان يدرك أنّ الطلاب العميان غالباً ما يكونون من الفقراء البائسين، وأنهم بحاجة إلى من يخفف عنهم بؤسهم وتعاستهم، وإلى من يرعى لهم شؤونهم، فبادر الطالب سليمان إلى ذلك، فتقرّب إليهم، وتحبّب إلى قلوبهم، وصار يبثّ فيهم روح التمرد على الواقع المهين الذي يعيشونه، فوثقوا به، وألقوا إليه زمام أمورهم، حتى صار مرجعهم الذي يرجعون إليه في حل مشكلاتهم، يُخبّئون عنده نقودهم القليلة، ويستشيرونه فيما يشترون ويقرؤون ويحفظون، وكانوا يجدون لديه الحلول المناسبة لكل مشكلة، حتى صار شيخهم، وما عادوا ينادونه إلاّ باسم الشيخ سليمان.

قال فؤاد:

- ليت عندنا مثل هذا الطالب الأعمى ليقودنا، وسأكون أنا أول جنديّ عنده.
فضحك أحمد وقال:

- صدق من قال: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكمو *** قد ضلّ من كانت العميان تهديه
وضج الصف بالضحك، وضحك معهم الأستاذ، وبعد أن سكت عنهم الضحك تابع الأستاذ كلامه:

- كان يقول لهم:

«يجب أن نجاهد لنحرر الشعب المصري من حكم هؤلاء المماليك الظالمين».
وكان العميان يستغربون كلامه ويسألون: «كيف؟». والطالب سليمان يشرح لهم، ويبثّ في نفوسهم روح العزّة والكرامة والتصميم على الكفاح الدامي لتحرير مصر من حكم الغرباء.

قال أنس:

- يا سلام.. أعمى ولكنه يرى أكثر من «المفتّحين».
وتابع الأستاذ يقول:

- وعندما أنهى الجوسقيّ تعليمه في الجامع الأزهر، وانتقل إلى الحياة العملية، قام بتنظيم أمور العميان في سائر المدن والقرى المصريّة، يُرتّب لهم حياتهم، ومفردات عيشهم، يوزّعهم على الأحياء والقرى القريبة والنائية، ويعلّمهم كيف يتعاملون مع الناس، حتى الشّحاذة رتبها لهم، وكان هؤلاء العميان يطيعونه فيما يأمرهم به، وفيما ينهاهم عنه، وكانوا يُعطونه ما يزيد عن حاجتهم من مال، ليدّخره ويثمّره لهم. وكان هو يفرض على الشَّحاذينَ منهم ضريبةً مُعيّنة. فكان يأخذ نسبةً محددة ممّا يشحَذونه من الناس، وهم راضون. يُزَوِّجُ هذا، ويشتري أو يستأجر بيتاً لذاك، ويرعى مصالح الجميع، وكأنه ملك العميان في القطر المصري كلِّه.

انتبه الجواسيسُ لهذا الشيخ الأعمى الذي صار له نفوذٌ كبير على العميان، حتى شكّل منهم جيشاً جرّاراً في طول البلاد وعرضها، وجمع الأموال الطائلة ممّا كان يأخذه من العميان، وما كان يُتاجر به، وبنى العمارات، وأنشأ عدداً من المطاحن والمعاجن والمخابز، حتى صار كبارُ المشايخ والوجهاء يستدينون منه، وكان يُقرِضهم قروضاً حسنة، وكثيراً ما كان هؤلاء يضيقون به، ويحسدونه على ماله ونفوذه، ويكرهون كبرياءه، فهم لم يعهدوا في أيّ أعمى أن يكون سيّداً ثريّاً مطاعاً، وهم المبصرون، ينظرون فلا يرون حولهم إلاّ المنافقين وأصحاب المصالح.. كان هذا يثير نقمتهم عليه، فلا يتحفّظون في الجهر بما ينقمون عليه، ولكنّ الشيخ سليمان كان لهم بالمرصاد، يُلَقِّنُهم دروساً في العزّة والكرامة، ويأبى أن يذلَّ لهؤلاء الذين كانوا يُثيرون غضب المماليك عليه، فيشكونه إلى أُمرائهم، ويُحذّرونهم من تعاظم شأن هذا الأعمى الذي ينوي الشرَّ بهم جميعاً، فهو يكيد لهم، ويسخر منهم، ويَزعم أنهم مماليك عبيدٌ وليسوا أحراراً، وكثيراً ما كان الحُمقُ يركب بعض هؤلاء المماليك، فيتعرّضون له ولأتباعه العميان ويُؤذونهم، وهو صابرٌ على إيذائهم، يتحيّنُ الفرصة التي يُذلّهم فيها، ويُعبِّئ أتباعه بالحقد عليهم، والتأهُّب لليوم الذي يثأرون فيه لكرامتهم المُهدَرَة، ولأموالهم المُنتَهَبة.

قال عدنان:

- شيء جميل.. جميل جدّاً.

تابع الأستاذ خالد حديثه:

- كان الشيخ سليمان يُعِدُّ العُدَّة، ويسعى لتطهير مصر من هؤلاء المماليك الدُّخلاء، الذين نشروا في البلاد ألوان الفساد، فكانوا وأتباعهم يسطون على الأعراض، وينهبون الأموال، ويُذلُّون الفلاحين البائسين، ويقهرون الرجال، حتى لا يفكّر واحدٌ منهم بالعمل على تخليص البلاد والعباد منهم، والولاة الأتراك ينظرون فلا يُحرِّكون ساكناً ضدّ هؤلاء المماليك، وكان همُّ الشيخ الجوسقي وهاجسه تكوين جيش من الشعب المصريِّ ينقضُّ عليهم في يوم من الأيام، إذ لا أمل في تحرير الوطن من الغرباء إلاّ بجيش من أبناء الوطن نفسه، ولكنّه كان يجدُ العقبات تقف في وجه طموحه هذا.

وكانت زوجته أمُّ داود تُغذّي طموحه هذا، وتُمنّيه بأن يكون سلطاناً على مصر، فليس في مصر كلِّها من يستحقُّ أن يكون سلطاناً عليها غير الشيخ سليمان، الرجل الذكيِّ الألمعيِّ الشديد البأس، والقادر على قهر أعداء الشعب. وكانت تقول له:

- اعمل وثابر على العمل يا شيخ سليمان، ولا تيأس، ولا تضعف، واعتمد على الله. فما اعتمد مجاهد على الله، ووثق به الشعب، إلاّ انتصر بإذن الله.

ولكن.. وقبل أن يخطوا الشيخ خطوته التالية في تشكيل جيش الشعب من عامّة المصريين، بعد أن بدأ بتشكيل جيش العُميان جاء نابليون بونابرت بأُسطوله وجيشه وعلمائه ومعدّاته وأسلحته الحديثة الفتّاكة، وغزا مصر، وتمكّن من دحر جيش المماليك الذي فرَّ أمام عُدّته الحربية، ورضي من الغنيمة بالهزيمة.

وراح نابليون يعمل بعقليّة المستعمر، ويتصرّف كتصرّف سائر المستعمرين.. يُخرّب ويُدمّر ويقتل ويحرق المحاصيل الزراعية، وينشر الفساد الأخلاقي.. وانطلق جنوده يعيثون فساداً بأرض مصر، يُذلّون شعبها، ويعتدون على الأعراض. ويدوسون المقدّسات، وينتهكون الحرمات، فدخلت خيولهم إلى صحن الجامع الأزهر، واعتدوا على علمائه وعلى طلاب العلم فيه، وقتلوا المصلين، وسَخروا من دينهم ومن عاداتهم وتقاليدهم وعبادتهم، حتى إنّهم جعلوا الجامع الأزهر وعدداً من مساجد القاهرة والمدن والقرى مرابط لخيولهم، في استهتارٍ واستهانةٍ بهذا الشعب الذي زعموا أنه شعبٌ ذليل خاضع لا يعرف القتال، ولا كيف يدافع عن وطنه وعن عقيدته وعن عرضه، مثلهم في ذلك كمثل أسلافهم من الأتراك والمماليك الذين كانوا يزعمون أيضاً أن الشعب المصريَّ شعبٌ مسالمٌ مستسلمٌ لا يقوى على ردِّ العدوان عليه. متواكلٌ، يدع أمر الدفاع عن أرضه إلى غيره.. إلى المماليك الذين ولّوا الأدبار أمام الفرنسيين.

بل إنّ الفرنسيين هؤلاء كانوا ينهبون الكتب والمخطوطات والآثار، ويقطعون في كلِّ يوم رؤوس خمسةٍ أو أكثر من المصريين في القاهرة وحدها، ويطوفون بها في شوارعها، إرهاباً للناس وتخويفاً.

--------------------------------------------------------------------------------------------------------

*يتبع........

 

توقيع الريادة  

 

 

الريادة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس