عرض مشاركة واحدة
منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز
قديم 19-03-2012, 07:40 AM   #13

حلمي سيتحقق

جامعي

الصورة الرمزية حلمي سيتحقق

 
تاريخ التسجيل: Sep 2011
التخصص: إدارة عامــهـ
نوع الدراسة: إنتظام
المستوى: الخامس
الجنس: أنثى
المشاركات: 51
افتراضي " ضي "




مكتب سنديان عتيق ..
زجاجة حبر فارغة …
و باب نصف موصد ..
المطر في الخارج يضرب الأرض بعنف.
نمت حول جسدي خيوط العنكبوت ..
و يدي تمسك بشظايا جرح قديم ..

دقات الساعة الرتيبة ، تتسابق للثانية عشرة ..
بينما النوم يأخذ طريقه إلى كل شيء سواي ..

كحداء حزين .. عادت الذاكرة ، تستجدي الذكريات الألم ..
تلك الذاكرة التي ما فتئتُ أجرها لأزقة حي مطمور تحت تراب الزمن ..
حيث كان النزف الأول ..


* * *


كنت أغادر عامي الثالث عشر ، حينما سمعتُ صوت أمها صارخا، قبل أن يولد الفجر بساعات قليلة ..
علمت ُ صباحا ، أن جارتنا أم البنين العشرة، قد أنجبتْ أخيرا .. بنت .

عُرفا ، لم تكن سوى ابنة لجيراننا ، لكني أحسست بها شيئا آخرا .. شيء مختلف ، كنتُ أبرر لنفسي هذا الأمر كوني وحيدا بلا أخوة ، لكني اكتشفت (متأخرا) أن هذا السبب لم يكن سوى أرض هشة ، تهاوت على حين غفلة من تحتي .
سألت أمي أن أذهب معها ، ثم انتابني شعور أني سألتها أمرا منكرا ، فأردفت قائلا :
لم أر في حياتي مولودا يا أمي ..
ضحكت .. و سمحت لي بمرافقتها ..


* * *


قلت لأم سعد :
سموها (ضي) ..
حينما أخبرتني بأنهم لم يختاروا لها اسما بعد ، لم أسمع بهذا الاسم من قبل ، لكنه جاء على لساني في تلك اللحظة فقط .
وضعتها أمها بين يدي ، سافرت عيناي في خريطة وجهها المنمنم ، عيناها .. ما دلهما الضياء بعد ، خفضت رأسي و قبلت جبينها ثم أعدتها لأمها .
رغم أولاد جيراننا العشرة ، إلا أني لم أحس بجيرتهم إلا بعد (ضي) . أصبحت أتردد عليهم يوميا .. لا لسبب .. سواها .. حتى نهرتني أمي قائلة بأني أصبحت رجلا و ليس من اللائق أن أدخل بيت جيراننا .

ألف الناس رؤيتي مع (ضي) في السوق ، بعد أن أكملت عامها الثاني . ضحكتها التي تملؤني فرحا .. عيناها الواسعتان .. لونها النجدي .. الطيني ، كل هذه أصبحت أساسا في حياتي ..
آخذها عصرا معي للسوق حيث أقف في دكان أبي ، و أتركها تعبث بكل شيء ..و أكتفي أنا بالضحك !


* * *


قهقهتُ فرحا ذات مساء صيفي ، عندما قالت لي أمي و هي تناولني فنجان القهوة :
أم سعد تقول” أن (ضي) .. لا تكاد تعرف سوى (خالد) .. حتى أنا بالكاد تعرفني .. فكيف بوالدها و أخوتها”
علقتْ أمي :
قد يأتي يوم .. و بالكاد تعرفك ..
ثم أسفر المساء بابتسامة أبي ..


* * *


لم أشعر بالزمن إلا ذاك الصباح ، حينما طرقت الباب .. لتخرج إلي (ضي) و تخبرني بأن أمها رفضت أن تسمح لها بالخروج معي ، لأنها كما تقول أمها أصبحت كبيرة ، و من (العيب) أن تخرج مع الرجال.

(عمي) .. سأظل أشتري من دكانكم ..
كأنما تعزيني .. و ابتسمت ثم توارت خلف الباب الذي أوصد ببطء ..

” عمي “..
بقيت ترن في أذني .. تتفجر ..
لم أشعر يوما بالألم كشعوري به ذاك اليوم ..
استلقيت على فراشي ، لأكتشف أن الفلك قد دار عشر دورات كاملة منذ أن أشرقت (ضي) ذات ليلة .

كنتُ أشعر بالغيظ .. بالجرح .. بحزن دامٍ..
كيف تمنعني أم سعد من ضي و قد قبلتها صباح ما ، بين عينيها ؟ ..
كيف تمنعني و قد أضاءت حياتي لعشر سنوات ؟ ..
كيف يطيب لها أن تغمر باقي أيامي بالظلام دون سابق إنذار ؟ ..

ثم ألفيْتُ نفسي أبكي .. و قد ارتوت وسادتي دموعا ..

هبط الليل شيئا فشيئا على قلبي ، مر زمن دون أن أخرج من الغرفة ، حتى قهوة المساء لم أتناولها مع أهلي ، المرض بدأ يتسرب إلي ، و أخذت الحمى تسري في أوردتي .

طرقت أمي الباب أول الليل ثم دخلت ، راعها منظري ، وجه محتقن .. عرق نازف .. و جسد مشتعل، لم تنبس ببنت شفة ، أطالت النظر إلي ، ثم وضعت يدها على رأسي ، و أدنت فمها من أذني و همست :
و ما الذي يعنيك من أمر طفلة ؟!!!

أمي ، هي الشخص الوحيد الذي يكاد يفهمني في كل شيء ، كنتُ متأكدا من أنها تعلم عمق (ضي) في حياتي ، و أني ما زلت أعدها جزءً مني ، قلت لأمي :
هي طفلة .. لكنها طفلتي .. أم سعد قالت ذات زمن أنها متعلقة بي .. فكيف تقطع حبلا ظُـفِر بعشر سنين ؟!!
مسحت أمي وجهي بقماش مبلل ، في محاولة يائسة لإطفاء الحمى التي سرعان ما اتقدت في سائر جسمي ، ثم أويت لنوم متقطع حتى الفجر .


* * *


ككل الأشياء التي تبدأ كبيرة ثم تصغر … كانت (ضي) ، شعلة بدأت متوهجة ثم أخذت تخبو رويدا رويدا .

تمر بالدكان الذي آل إلي بعد وفاة والدي ، تبتسم لي .. فأرد ابتسامتها بابتسامة باهتة .. فقدت ألوانها منذ أن حال بيننا ذاك الباب في صباح عمره زمن جريح .
لا يؤلمني أمر أكثر من قولها : “عمي” ، رغم أنها غدت خارج أسواري ، لا زلت أكرهها منها ، كم مرة كادت أن تجمح جيادي لأقول لها : “خــــالـــد .. ” ، فألجمها قبل أن تنطلق ، و يبقى في قلبي طيف منها في طريق عودتي مساءً ، ثم أقتله حالما تبتلعني الدار .

اجتاح الركود حياتي ، إلا من بعض الأعمال التي يتطلبها الدكان ، ثم يعود الإيقاع الرتيب لساعاتي .
أمي .. السيدة التي تتربع على عرش قلبي ، تسللت إلى غرفتي حيث الشتاء قد أثقل وطأته تلك الليلة ، حاملة (الوجار) ، ثم جلست بجواري على الفراش :
- أتشعر بالبرد ؟
سألتني و هي تعرف الإجابة ..
أشعر بالملل ..
زفرتـُها .. حارة كئيبة ..
بلغت هذا العمر .. و لم تتزوج .. و لا تريد أن تشعر بالملل ؟!!!!
أيقظت فيّ هاجسا غافيــا ، حاولت أعيده إلى نومه :
الزواج ليس كل شيء ..
لكنه سيعيد الألوان إلى حياتك ..
أجبتها بصوت تخلله الجوى :
ما عاد في حياتي ألوان يا أمي ..

لم تكن تلك المرة الوحيدة التي حاولت بها أمي أن تطرق أبواب القلب المـُرتجة ..
شيء خفي كان يدفعني للرفض في كل مرة . كل مساء تأتي أمي و هي تحمل لي أسماءً لتعرضها عليّ ، و أبدو كمن يفتش عن ضائع ما .. و حينما لا أجده .. أرد بضاعتها إليها .
تبحث عنها .. أليس كذلك ؟..
لم أكن أنتظر سؤالا كهذا ، لا أدلّ دربا لإجابته .. فاكتفيتُ بالصمت ، و لاذتْ بالانسحاب .
نهش التفكير كل مساحات عقلي تلك الليلة :
- أحقا أنا أبحث عنها .. رغم كل مسافات البعد ..
ثم صرخ بي الفجر دون أن تهتدي مراكبي .


* * *


عشتُ مشوشا ، تأتي كل (عصر) إليّ لتشتري مني ، حضورها يبني مدنا من غموض ، لا أنتشي ، لا أحزن ، لا أفرح ، و لا أي شعور عادي آخر ، شعور مبهم .. يجعلني أرقب حضورها .. و حسب.
و يظل يقرعني سؤال : أتشعر بي ؟! .. و حينما يتسرب إلي صوتها بـ : (يا عمي) .. تنهار كل الأسئلة ، و أتقوقع كطير صغير مبلول ..
كنت أعنف نفسي : كيف تشرّع سفن شعورك نحوها .. و قد كانت ذات يوم طفلة بين يديك ، لم تفتح عينيها بعد ، ثم أذكر قبلتي على جبينها ، فيغرق داخلي بفيضان ماء مالح ..


* * *


مثل كل ليلة ، تأتي أمي إلى فراشي ، تتحدث معي قليلا ، ذكرتني بالذي لا أنساه :
خالد .. أحفادي ..
ضحكتُ بقلب مذبوح ..
رمت السهم الأخير في جعبتها :
أما زلت تريدها ؟ ..
ظللتُ أحدق بخشبات السقف دون أن أتكلم ..
رجل بعمرك .. بحاجة إلى زوجة .. لا إلى طفلة ..
التفتُ إليها ببطء :
لكنها لم تعد طفلة .. إني أعد أيامها يا أمي ..
صمتت طويلا ثم همت بالخروج ، أطياف كلمات كنتُ أراها تتعثر عند شفتيها ..
أمي ..
قلتها و هي توشك أن تغلق الباب ..
اصدقيني .. ما الذي كدت تقولينه ..؟
عادت إلي ، و عيناها تمور في بحر من الدمع مائج ..
خالد .. سامحني يا بني ..
ضي .. ما بها..؟!
خرج السؤال خائفا مبحوحا ..
جرّت حروفها بصعوبة :
خُطِبت .. و زواجها بات وشيكا ..
انقبض قلبي .. أحسست بزلزال يضرب أعماقي .. كل ما حولي غدا بلا ملامح .. كائنات هلامية تموج ..
أمنيتي .. أغنيتي .. ضحكتي .. و دمعتي .. تلاشت كما يحترق نجم السماء ..
و عاد صوتها : “عمي” يتأرجح داخلي ، فغاص الوجع عميقا .. عميقا ..


* * *

ضرب المرض جسد أمي المثقل بالسنين ، فأسرها فراشها ، و بقيت معها ، حتى سكنت أنفاسها في ليلة حالكة تماما ..
عدتُ من الصلاة عليها ، و في قلبي ألف حزن .. و حزن ..

البيت موحش ، كمعبد بوذي تسكنه الأشباح ، دخلت غرفتي و استلقيت على الفراش أرتقب مجيء أمي ككل ليلة .بدا الصباح ميتا ، لم أسمع صوت تحريك الأواني بالمطبخ ، و لم أشم رائحة (حمس) القهوة ،
في الفناء .. بقيتُ أنتظر أن تأتي أمي ، حتى أيقنتُ أنها رحلت لما خلف الأفق .

و على أنقاض حزني … نما حزن آخر و أينع ..
كنت قد أكملت الثلاثين (جرحا) ، و في الليل تسلل إلي صوت طبول من مكان قريب ، فضربت جذور الأسى في أعماق قلبي ، و تحول كل أمل .. لحلم ليلة صيف ..
أغلقت على نفسي حجرة أمي ، و بكيت طويلا ..
أحسستُ بحزن جامح .. ألم موجع :
متى يبكي الرجل ؟!!!
قمتُ ألملم بقاياي ، و خرجت متسربلا بالظلام ، و أنا أغلق الباب للمرة الأخيرة ، جُرِحت يدي جرحا ما زلت أنكأه كل ليلة .. كي لا أنسى ..

مررتُ بدار (ضي) .. و تلوت تراتيل الوداع الأخيرة ..

كان ثمة جدران طين عتيقة ..



بقلم : هديل الحضيف " رحمها الله " نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة



 

توقيع حلمي سيتحقق  

 






أشلاءٌ متنآثره هنآ و هنآك ..
قلبٌ يكآبر شعور الودآع .. وحتى أخر لحظه يكف دموعه ،
رحيلٌ دون موعد ..




 

حلمي سيتحقق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس