صوت محفوف بالتيه :
الساعة التي احتوت رحيله ، كانت تحمل العدد صفر ..
أيامي التي قبلها .. تُحسب بالموجب ، و ما بعد سفره .. تحمل الإشارة السالبة ..
كل الذين رحل بعدهم ، لم يجدهم ساعي البريد ليحمل إليهم أمنيات الأبناء ، و أشواق الزوجات .. لذا أعلنتُ الحداد عليه مذ تلاشت النفثة الأخيرة لمدخنة القطار ..
فجأة وجدتُ نفسي في التيه .. على شفا ضياع .. و بلا أبي !
كل الشوارع حملت ذات العلامات ، و كل الوجوه لبست نفس الملامح ..
بعد استدعائه للتجنيد ، باع كل شيء يخصه ، و سلمني الثمن ..
ستساعدك .. يا مانويلا ..
ما عدا قميص اليوفنتوس ..
ثمة أشياء تستحق البقاء يا أبي .. اتركه لي ..
في محطة القطار ، كان يضحك بصوت عال ، ليكتم بكاءً تفجر داخله ..
هيه مانويلا .. في الوقت متسع للضحك .. و الحياة ما زالت تكفي للغناء .. و الرقص أيضا ! .. أخبري انطونيو أن يجهز الاسبغاتي لي ، لأني سأعود قريبا ..
بعد الصافرة الثالثة للقطار ، ماجت في عينيّ الصور.. لم أعد أرى إلا أطياف هلامية .. و ما عدت أسمع إلا أصوات عويل .. و نشيج بعيد ..
لا أذكر كم من العمر مضى ، لكن يبدو أن زمنا طويلا اجتازني قبل أن ينبهني عامل صغير إلى أن وقت إغلاق المحطة قد أزِف ..
برد ديسمبر ، و كتلة السديم الهائلة اللذيْن اعترضا خروجي من المحطة ، أخطراني بأن عليّ أن أبحث عن أفق جديد أعتمده مشرقا لشمسي المُنهكة ..
* * *
احتفظت بالرسائل التي شرعت بكتابتها لأبي كل فجر ، في كيس قماشيّ ، لم أكن أعلم كم عددها ، كنتُ أتحاشى الزمن و التاريخ .. و أنام دون أن أنتظر الغد المفرغ من الآمال ..
مائتين و ثلاثون رسالة ؟!! من سيحملها إلى فرانشيسكو يا مانويلا ؟!!
لا أحد ..
إذن لِم تحتفظين بها ؟
قد يعود يوما .. فيجدها ..
كنتُ موقنة أنه لن يعود ، رغم أن انطونيو يحاول منحي قليلا من شمس في ظلمتي المستعرة ، برواية قصص عن سفن رست بالميناء مؤخرا ، محمّلة بآلاف الجنود الذين عادوا ،
كنت أعلم أنه يختلقها .. و أن ما من سفن في الميناء ، سوى تلك المغادِرَة ..
أما السفن القادمة ، فلم تكن تأتي أبدا ..
مانويلا .. سيأتي .. أنا متأكد من ذلك .. ستنتهي الحرب قريبا ، هكذا سمعتُ اليوم .. فرانشيسكو يحب الحياة ، و يحبك .. و حتى لو لم يكن يحبك .. فهو لن يموت .. لأن اليوفي يتصدر فرق الدوري .. صلّي من أجل بقائه .. و لا تبكي .. أرجوكِ لا تفعلي ذلك ..! و بمناسبة ربحي خمس سنتات إضافية اليوم ، سأشتري لحما ، لأطبخ (لازانيا) .. سنعيش إحساس المترفين اليوم ..!
ابتسمتُ دون أن أدرك تماما ما الذي يقوله .
* * *