عرض مشاركة واحدة
منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز
قديم 05-04-2012, 08:03 AM   #23

حلمي سيتحقق

جامعي

الصورة الرمزية حلمي سيتحقق

 
تاريخ التسجيل: Sep 2011
التخصص: إدارة عامــهـ
نوع الدراسة: إنتظام
المستوى: الخامس
الجنس: أنثى
المشاركات: 51
افتراضي قارب الميدوز ..




شاهد عيان :


الطرق مكسوة بالجوع ، بمستنقعات موبوءة ، و بأطفال لفظتهم الأكواخ التعيسة ..
في الصحاري الأفريقية البعيدة ، تتبخر أمنيات العودة ..
و محطات القطار ، و الموانئ امتلأت بأوهام اللقاء ..

انطونيو .. ابحث لي عن أرض أخف قسوة من هذه ! .. لم تعد إيطاليا وطنا ..!
الأرض أضيق من أن نجد وطنا جديدا ..
دعنا نحلم بأن ثمة مكان سيحتوينا، بأن ثمة زمن ملون .. أن ” في الوقت متسع للضحك .. و الحياة ما زالت تكفي للغناء .. و الرقص أيضا ” ..
مانويلا .. الأحلام غدت ترفا ينبغي لنا أن لا نمارسه !
أمريكا .. ستكون أبعد من أن تلحقنا آلامنا إلى هناك ..

الهجرات التي توارت في بطون السفن ، أخذت تمخر عباب الأطلسي ، محفوفة بالموت .. و بالرجاءات الواهية بالخلاص ..

خمسون ليرة ، و نحملك إلى خارج المتوسط ..
و بعد (المتوسط) ؟
ثلاثمائة ليرة إضافية للوصول إلى سواحل أمريكا ..


* * *


باعت الكوخ بما فيه ، و أشياءها الصغيرة .. لم تبقِ سوى القميص ، و الكيس المملوء بالرسائل التي خذلها ساعي البريد ..
كتبت رسالة أخيرة :
” أبي ..
هاهو العمر يتركني في المهب .. نهبا لليباب .. و للأراضي البور ..
أعدك بأني لن أهرب بعيدا ، سأبحث عن وطن للضوء .. و كفى ..


فرانشيسكو مانويلا ، زمن المنفى .. “
و رمتها في الكيس بلا تاريخ ..

خُيّل إليها أنها سمعت بكاءً لا يشبه سوى فرانشيسكو ، أطرَقَت .. ثم امتطت طريقا إلى الميناء ..

الهواء كان ساكنا ، و الليل تعرّى من نوره ، مجموعة تصل إلى العشرين ، كلهم يبحثون عن مرفأ لأعمارهم المخذولة .. لم تستطع أن تتبيّن ملامحهم ، لكن بدا لها أنّ لا امرأة سواها ..

سنتنكر أولا بلباس الصيادين ..

لوهلة ، امتلأ جوفها بالفراغ .. شعرت بأنها على سلم ، لم تدر ما نهايته ، و ما كانت بدايته واضحة ، كانت معلقة بالهواء ، و تحتها هاوية من سواد دامس ..
مانويلا ..
أتى صوت انطونيو ليرتب الأفكار التي بعثرتها الريح .. و ليمنحها قلبا مطمئنا ، و لو إلى حين ..

على مقربة من القوارب الأربعة التي رست على شاطئ بعيد عن الميناء ، وقف رجل طويل ، بملامح غامضة ، و عينين حادتين ، بدا و كأنه قائداً للفرقة التي ستتولى القيادة :
سيستقل كل خمسة منكم قاربا .. و سننطلق قبل أن يطلع علينا الفجر ..
يجب أن تدركوا بأن السلطات لن تسمح لنا بتجاوز المياه الإقليمية إن وجدتنا، و قد نتعرض للمساءلة و السجن ..

أخذ الخوف يبني حجراته في القلب ، استعدادا لإقامة طويلة بها ..

.. إن سارت الأمور كما نحب ، فسنصل مضيق جبل طارق في أسبوعين .. و أرجو أن لا يعترض طريقنا عارض .. اركبوا .. و ليباركنا الرب ..


* * *


خمسون يوما مضت ، منذ أن وجدوا من ينقذ أحلامهم التي تُركت بمواجهة مع الموت على ساحل أسباني ناء ، ليودعها عمق مفازة الماء تلك ..!
تكدس القبو الرطب للسفينة الضخمة بمئات المهاجرين الأسبان و البرتغاليين .. و الضوء يضمر شيئا فشيئا ، حتى يتلاشى ..

أحد القوارب الأربعة التي غادرت جنوى، وقعت في مصيدة خفر السواحل ، لتتابع الثلاثة الباقية طريقها غرباً ..
شهر إلا قليلا ، و مضيق جبل طارق لا يظهر ..
طيور الماء تقلصت أجنحتها ، فما عادت السماء تحويها ..
و (المتوسط) بدا بحرا أبديا بلا نهاية ..
انطونيو .. أشعر بغضب أبي ..

عادت النوارس للتحليق بعد لأي ، و ظهرت أطراف لأرض بعيدة ..
صرخ ذو العينين الحادتين :
ها قد أذعن لنا المضيق !
في عنق (طارق) .. ثمة قلق اجتاح العينين الحادتين :
جوزيف .. أكانت البواخر الإنجليزية موجودة في رحلتك السابقة ؟
و غمز بعينه ..
لا يا سيدي .. كان المضيق خاليا تماما ..!
اختفت النوارس ، و نأت أطراف الأرض البعيدة !!
انطونيو .. أبي يبكي !!


* * *


أصوات لانفجارات تأتي من فوقهم ، و من أسفل منهم ، و القبو أبعد من أن يصله خبر ..
سكون أشبه بالموت ، اختلط برائحة العرق .. البول .. و جثث متعفنة ..
المكان لا ينبئ بالوقت ، و الزمن غدا سرمدا لا مخرج منه ..
ساعة .. ساعتان .. أكثر .. و السفينة ترتج في مكانها .. موقدة مراجل للفزع في الصدور المتعبة ..
على الطرف الآخر للقبو ، ثمة بكاء خافت .. حيث أبوين أسبانيين صغيرين ..
و رضيع ما جاوز عمره الأيام ..

أصوات ابتهالات متصلة .. و نشيج متقطع .. ثم صرخ الأب :
لقد ماااااااااات !!!


و هدأت السفينة !


* * *


في نقطة غائبة في المحيط ، رُميت الأجساد التي ملأت القبو برائحة اللحم المتفسخ ، و بقيت عشرات قليلة من المئات الذين غادروا أسبانيا أول مرة ..
انطفأ الضوء في الأعين .. و فقد الجميع اللغة التي اخترعوها للاتصال فيما بينهم ..

الموت يمر .. ببطء..
الاحتضار .. أبدي .. و الجوع يفترس البقية بوحشية ..

تسلل خيط نور من الباب الصغير الذي فُتِح :
يقول لكم القبطان بأننا سنصل ميامي الليلة .. فاستعدوا ..

ثم عادت الظلمة تطبق على المكان ..
مانويلا .. مانويلا .. استيقظي .. الحلم يغادر باتجاه الحقيقة .. مانويلاااااا .. مانويلا !!


* * *


 

توقيع حلمي سيتحقق  

 






أشلاءٌ متنآثره هنآ و هنآك ..
قلبٌ يكآبر شعور الودآع .. وحتى أخر لحظه يكف دموعه ،
رحيلٌ دون موعد ..




 

حلمي سيتحقق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس