رد: طلب للمره الثانيه
باب في أحكام اللقطة
اللقطة - بضم اللام وفتح القاف - هي مال ضل عن صاحبه غير حيوان ، وهذا الدين الحنيف جاء بحفظ المال ورعايته ، وجاء باحترام مال المسلم والمحافظة عليه ، ومن ذلك اللقطة .
فإذا ضل مال عن صاحبه ، فلا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون مما لا تتبعه همة أوساط الناس ؛ كالسوط ، والرغيف ، والثمرة ، والعصا ؛ فهذا يملكه آخذه وينتفع به بلا تعريف ؛ لما روى جابر قال : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل ، رواه أبو داود .
الحالة الثانية : أن يكون مما يمتنع من صغار السباع : إما لضخامته كالإبل والخيل والبقر والبغال ، وإما لطيرانه كالطيور ، وإما لسرعة عدوها كالظباء ، وإما لدفعها عن نفسها بنابها كالفهود ، فهذا القسم بأنواعه يحرم التقاطه ، ولا يملكه آخذه بتعريفه ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ضالة الإبل : ما لك ولها ؟ ! معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها متفق عليه ، وقال عمر : " من أخذ الضالة ؛ فهو ضال " أي : مخطئ ، وقد حكم - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بأنها لا تلتقط ، بل تترك ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها .
ويلحق بذلك الأدوات الكبيرة ؛ كالقدر الضخمة والخشب والحديد وما يحتفظ بنفسه ولا يكاد يضيع ولا ينتقل عن مكانه ، فيحرم أخذه كالضوال ، بل هو أولى .
الحالة الثالثة : أن يكون المال الضال من سائر الأموال ؛ كالنقود والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع ؛ كالغنم والفصلان والعجول ؛ فهذا القسم إن أمن واجده نفسه عليه ؛ جاز له التقاطه ، وهو ثلاثة أنواع :
النوع الأول : حيوان مأكول ؛ كفصيل وشاة ودجاجة ... فذا يلزم واجده إذا أخذه الأحظ لمالكه من أمور ثلاثة :
أحدها : أكله وعليه قيمته في الحال .
الثاني : بيعه والاحتفاظ بثمنه لصاحبه بعد معرفة أوصافه .
الثالث : حفظه والإنفاق عليه من ماله ، ولا يملكه ، ويرجع بنفقته على مالكه إذا جاء واستلمه ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الشاة ؛ قال : خذها ؛ فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب متفق عليه ، ومعناه : أنها ضعيفة ، معرضة للهلاك ، مترددة بين أن تأخذها أنت أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب .
قال ابن القيم في الكلام على هذا الحديث الشريف : " فيه جواز التقاط الغنم ، وأن الشاة إذا لم يأت صاحبها ، فهي ملك الملتقط ، فيخير بين أكلها في الحال وعليه قيمتها ، وبين بيعها وحفظ ثمنها ، وبين تركها والإنفاق عليها من ماله ، وأجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط ؛ له أخذها " .
النوع الثاني : ما يخشى فساده ؛ كبطيخ وفاكهة ، فيفعل الملتقط الأحظ لمالكه من أكله ودفع قيمته لمالكه ، وبيعه وحفظ ثمنه حتى يأتي مالكه .
النوع الثالث : سائر الأموال ما عدا القسمين السابقين ؛ كالنقود والأواني ، فيلزمه حفظ الجميع أمانة بيده ، والتعريف عليه في مجامع الناس .
ولا يجوز له أخذ اللقطة بأنواعها إلا إذا أمن نفسه عليها وقوي على تعريف ما يحتاج إلى تعريف ؛ لحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ، قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق ؟ فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثم عرِّفْها سنة ، فإن لم تعرف ؛ فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوما من الدهر ، فادفعها إليه وسأله عن الشاة ؛ فقال : فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ، وسئل عن ضالة الإبل ؛ فقال : ما لك ولها ؟ ! معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها متفق عليه .
- ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف وكاءها وعفاصها الوكاء : ما يُربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة . والعفاص : الوعاء الذي تكون فيه النفقة .
- ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ثم عَرِّفها سنة ؛ أي : اذكرها للناس في مكان اجتماعهم من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع والمحافل ، " سنة " ؛ أي : مدة عام كامل ؛ ففي الأسبوع الأول من التقاطها ينادى عليها كل يوم ؛ لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى ، ثم بعد الأسبوع ينادى عليها حسب عادة الناس في ذلك .
- والحديث يدل على وجوب التعريف باللقطة ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف وكاءها وعفاصها دليل على وجوب معرفة صفاتها ، حتى إذا جاء صاحبها ووصفها وصفا مطابقا لتلك الصفات ؛ دفعت إليه ، وإن اختلف وصفه لها عن الواقع ؛ لم يجز دفعها إليه .
- وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن لم تعرف ؛ فاستنفقها دليل على أن الملتقط يملكها بعد الحول وبعد التعريف ، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها ؛ أي : حتى يعرف وعاءها ووكاءها وقدرها وجنسها وصفتها ، فإن جاء صاحبها بعد الحول ، ووصفها بما ينطبق على تلك الأوصاف ، دفعها إليه ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن جاء طالبها يوما من الدهر ؛ فادفعها إليه .
وقد تبين مما سبق أنه يلزم نحو اللقطة أمور :
أولا : إذا وجدها ؛ فلا يقدم على أخذها إلا إذا عرف من نفسه الأمانة في حفظها والقوة على تعريفها بالنداء عليها حتى يعثر على صاحبها ، ومن لا يأمن نفسه عليها ؛ لم يجز له أخذها ، فإن أخذها ؛ فهو كغاصب ؛ لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه ، ولما في أخذها حينئذ من تضييع مال غيره .
ثانيا : لا بد له قبل أخذها من ضبط صفاتها بمعرفة وعائها ووكائها وقدرها وجنسها وصنفها ، والمراد بوعائها ظرفها الذي هي فيه كيسا كان أو خرقة ، والمراد بوكائها ما تشد به ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك ، والأمر يقتضي الوجوب .
ثالثا : لا بد من النداء عليها وتعريفها حولا كاملا في الأسبوع الأول كل يوم ثم بعد ذلك ما جرت به العادة ، ويقول في التعريف مثلا : من ضاع له شيء ونحو ذلك ، وتكون المناداة عليها في مجامع الناس كالأسواق وعند أبواب المساجد في أوقات الصلوات ، ولا ينادى عليها في المساجد ؛ لأن المساجد لم تبن لذلك ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردها الله عليك .
رابعا : إذا جاء طالبها ، فوصفها بما يطابق وصفها ؛ وجب دفعها إليه بلا بينة ولا يمين ؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، ولقيام صفتها مقام البينة واليمين ، بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة واليمين ، ويدفع معها نماءها المتصل والمنفصل ، أما إذا لم يقدر على وصفها ، فإنها لا تدفع إليه ؛ لأنها أمانة في يده ؛ فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها .
خامسا : إذا لم يأت صاحبها بعد تعريفها حولا كاملا ؛ تكون ملكا لواجدها ، ولكن يجب عليه قبل التصرف فيها ضبط صفاتها ؛ بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت ، ووصفها ؛ ردها عليه إن كانت موجودة ، أو رد بدلها إن لم تكن موجودة ؛ لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها .
سادسا : واختلف العلماء في لقطة الحرم : هل هي كلقطة الحل تملك بالتعريف بعد مضي الحول أو لا تملك مطلقا ؟ فبعضهم يرى أنها تملك بذلك ؛ لعموم الأحاديث ، وذهب الفريق الآخر إلى أنها لا تملك ، بل يجب تعريفها دائما ، ولا يملكها ؛ لقوله في مكة المشرفة : ولا تحل لقطتها إلا لمعرف واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ؛ حيث قال : " لا تملك بحال ؛ للنهي عنها ، ويجب تعريفها أبدا " ، وهو ظاهر الخبر في النهي عنها
سابعا : من ترك حيوانا بفلاة لانقطاعه بعجزه عن المشي أو عجز صاحبه عنه ملكه آخذه ؛ لخبر : من وجد دابة قد عجز أهلها عنها ، فسيبوها ، فأخذها ؛ فهي له ، رواه أبو داود ؛ ولأنها تركت رغبة عنها فأشبهت سائر ما ترك رغبة عنه ، ومن أُخِذ نعله ونحوه من متاعه ووجد في موضعه غيره ؛ فحكمه حكم اللقطة ، لا يملكه بمجرد وجوده ، بل لا بد من تعريفه ، وبعد تعريفه يأخذ منه قدر حقه ويتصدق بالباقي .
ثامنا : إذا وجد الصبي والسفيه لقطة ، فأخذها ؛ فإن وليه يقوم مقامه بتعريفها ، ويلزمه أخذها منهما ؛ لأنهما ليسا بأهل للأمانة والحفظ ، فإن تركها في يدهما ، فتلفت ، ضمنها ؛ لأنه مضيع لها ، فإذا عرفها وليهما ، فلم تعرف ، ولم يأت لها أحد ؛ فهي لهما ملكا مراعى ؛ كما في حق الكبير والعاقل .
تاسعا : لو أخذها من موضع ثم ردها فيه ؛ ضمنها ؛ لأنها أمانة حصلت في يده ؛ فلزمه حفظها كسائر الأمانات ، وتركها تضييع لها .
تنبيه : من هدي الإسلام في شأن اللقطة تدرك عنايته بالأموال وحفظها وعنايته بحرمة مال المسلم وحفاظه عليه ، وفي الجملة ندرك من ذلك كله حث الإسلام على التعاون على الخير ، نسأل الله - سبحانه - أن يثبتنا جميعا على الإسلام ويتوفانا مسلمين .
باب في أحكام الوقف
الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، والمراد بالأصل : ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور والدكاكين والبساتين ونحوها ، والمراد بالمنفعة : الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة وسكنى الدار ونحوها .
وحكم الوقف أنه قربة مستحب في الإسلام ، والدليل على ذلك السنة الصحيحة :
- ففي " الصحيحين " : أن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ! إني أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه ؛ فما تأمرني فيه ؛ قال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث ، فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف .
- وروى مسلم في " صحيحه " ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال : إذا مات ابن آدم ؛ انقطع عمله ؛ إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو ولد صالح يدعو له .
- وقال جابر : " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف "
- وقال القرطبي - رحمه الله - : " ولا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد ، واختلفوا في غير ذلك " .
ويشترط أن يكون الواقف جائز التصرف ؛ بأن يكون بالغا حرا رشيدا ؛ فلا يصح الوقف من الصغير والسفيه والمملوك .
وينعقد الوقف بأحد أمرين :
الأول : القول الدال على الوقف ؛ كأن يقول : وقفت هذا المكان ، أو جعلته مسجدا .
الأمر الثاني : الفعل الدال على الوقف في عرف الناس - كمن جعل داره مسجدا ، وأذن للناس في الصلاة فيه إذنا عاما - ، أو جعل أرضه مقبرة ، وأذن للناس في الدفن فيها .
وألفاظ التوقيف قسمان :
القسم الأول : ألفاظ صريحة ؛ كأن يقول : وقفت ، وحبست ، وسبلت ، وسميت ... هذه الألفاظ صريحة ؛ لأنها لا تحتمل غير الوقف ، فمتى أتى بصيغة منها ؛ صار وقفا ، من غير انضمام أمر زائد إليها .
والقسم الثاني : ألفاظ كناية ؛ كأن يقول : تصدقت، وحرمت ، وأبدت ... سميت كناية لأنها تحتمل معنى الوقف وغيره ؛ فمتى تلفظ بواحد من هذه الألفاظ ؛ اشترط اقتران نية الوقف معه ، أو اقتران أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية معه ، واقتران الألفاظ الصريحة ؛ كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة ، واقتران لفظ الكناية بحكم الوقف ؛ كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث
ويشترط لصحة الوقف شروط ، وهي :
أولا : أن يكون الواقف جائز التصرف كما سبق .
ثانيا : أن يكون الموقوف مما ينتفع به انتفاعا مستمرا مع بقاء عينه ؛ فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به ؛ كالطعام .
ثالثا : أن يكون الموقوف معينا ؛ فلا يصح وقف غير المعين ؛ كما لو قال : وقفت عبدا من عبيدي أو بيتا من بيوتي .
رابعا : أن يكون الوقف على بر ؛ لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى ؛ كالمساجد والقناطر والمساكين والسقايات وكتب العلم والأقارب ؛ فلا يصح الوقف على غير جهة بر ، كالوقف على معابد الكفار ، وكتب الزندقة ، والوقف على الأضرحة لتنويرها أو تبخيرها ، أو على سدنتها ؛ لأن ذلك إعانة على المعصية والشرك والكفر
خامسا : ويشترط لصحة الوقف إذا كان على معين أن يكون ذلك المعين يملك ملكا ثابتا ؛ لأن الوقف تمليك ؛ فلا يصح على من لا يملك ؛ كالميت والحيوان .
سادسا : ويشترط لصحة الوقف أن يكون منجزا ؛ فلا يصح الوقف المؤقت ولا المعلق ؛ إلا إذا علقه على موته ؛ صح ذلك ؛ كأن يقول إذا مت ؛ فبيتي وقف على الفقراء ؛ لما روى أبو داود : " أوصى عمر إن حدث به حدث ، فإن سمعا ( أرض له ) صدقة " ، واشتهر ، ولم ينكر ، فكان إجماعا ، ويكون الوقف المعلق على الموت من ثلث المال ؛ لأنه يكون في حكم الوصية .
ومن أحكام الوقف أنه يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يخالف الشرع ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : المسلمون على شروطهم ، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ، ولأن عمر - رضي الله عنه - وقف وقفا وشرط فيه شرطا ، ولو لم يجب اتباع شرطه ؛ لم يكن فيه فائدة ، فإذا شرط منه مقدارا معينا أو شرط تقديما لبعض المستحقين على بعض أو جمعهم أو اشترط اعتبار وصف في المستحق أو اشترط عدمه أو شرط النظر على الوقف وغير ذلك ؛ لزم العمل بشرطه ؛ ما لم يخالف كتابا ولا سنة .
فإن لم يشترط شيئا ؛ استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم .
وإذا لم يعين ناظرا للوقف ، أو عين شخصا ومات ؛ فالنظر يكون للموقوف عليه إن كان معينا ، وإن كان الوقف على جهة كالمساجد ، أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين ؛ فالنظر على الوقف للحاكم ، يتولاه بنفسه ، أو ينيب عنه من يتولاه .
ويجب على الناظر أن يتقي الله ويحسن الولاية على الوقف ؛ لأن ذلك أمانة اؤتمن عليها .
وإذا وقف على أولاده ؛ استوى الذكور والإناث في الاستحقاق ؛ لأنه شرك بينهم ، وإطلاق التشريك يقتضي الاستواء في الاستحقاق ؛ كما لو أقر لهم بشيء ؛ فإن المُقَرّ به يكون بينهم بالسوية ؛ فكذلك إذا وقف عليهم شيئا ، ثم بعد أولاده لصلبه ينتقل الوقف إلى أولاد بنيه دون ولد بناته ؛ لأنهم من رجل آخر ، فينسبون إلى آبائهم ، ولعدم دخولهم في قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ومن العلماء من يرى دخولهم في لفظ الأولاد ؛ لأن البنات أولاده ؛ فأولادهن أولاد أولاده حقيقة ، والله أعلم .
ولو قال : وقف على أبنائي ، أو : بني فلان ؛ اختص الوقف بذكورهم ؛ لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة ، قال تعالى : أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ إلا أن يكون الموقوف عليهم قبيلة ؛ كبني هاشم وبني تميم ؛ فيدخل فيهم النساء ؛ لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها .
لكن إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم ؛ وجب تعميمهم والتسوية بينهم ، وإن لم يمكن حصرهم واستيعابهم ، كبني هاشم وبني تميم ، لم يجب تعميمهم ؛ لأنه غير ممكن ، وجاز الاقتصار على بعضهم وتفضيل بعضهم على بعض .
والوقف من العقود اللازمة بمجرد القول ؛ فلا يجوز فسخه ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال الترمذي : " العمل على هذا الحديث عند أهل العلم " .
فلا يجوز فسخه ؛ لأنه مؤبد ، ولا يباع ، ولا يناقل به ؛ إلا أن تتعطل منافعه بالكلية ، كدار انهدمت ولم تمكن عمارتها من ريع الوقف ، أو أرض زراعية خربت وعادت مواتا ولم يمكن عمارتها بحيث لا يكون في ريع الوقف ما يعمرها ؛ فيباع الوقف الذي هذه حاله ، ويصرف ثمنه في مثله ؛ لأنه أقرب إلى مقصود الواقف ، فإن تعذر مثله كاملا ؛ صرف في بعض مثله ، ويصير البديل وقفا بمجرد شرائه .
وإن كان الوقف مسجدا ، فتعطل ولم ينتفع به في موضعه ، كأن خربت محلته ؛ فإنه يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر ، وإذا كان على مسجد وقف زاد ريعه عن حاجته ؛ جاز صرف الزائد إلى مسجد آخر ؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له ، وتجوز الصدقة بالزائد من غلة الوقف على المسجد على المساكين .
وإذا وقف على معين ؛ كما لو قال : هذا وقف على زيد ، يعطى منه كل سنة مائة ، وكان في ريع الوقف فائض عن هذا القدر ؛ فإنه يتعين إرصاد الزائد ، وقال الشيخ تقي الدين - رحمه الله - : " إن علم أن ريعه يفضل دائما ، وجب صرفه ؛ لأن بقاءه فساد له " .
وإذا وقف على مسجد ، فخرب ، وتعذر الإنفاق عليه من الوقف ؛ صرف في مثل من المساجد .
باب في أحكام الهبة والعطية
الهبة : هي التبرع من جائز التصرف في حياته لغيره بمال معلوم .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهدي ويهدى إليه ، ويعطي ويعطى ؛ فالهبة والهدية من السنة المرغب فيها لما يترتب عليها من المصالح ، قال : - صلى الله عليه وسلم - : تهادوا تحابوا وعن عائشة - رضي الله عنها - ؛ قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها وقال - صلى الله عليه وسلم - : تهادوا ؛ فإن الهدية تسل السخية .
وتلزم الهبة إذا قبضها الموهوب له بإذن الواهب ؛ فليس له الرجوع فيها ، أما قبل القبض ؛ فله الرجوع ، بدليل حديث عائشة - رضي الله عنها - : " أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية ، فلما مرض ؛ قال : يا بنية ! كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ، ولو كنت حزتيه أو قبضتيه ؛ كان لك ؛ فإنما هو اليوم مال وارث ؛ فاقتسموه على كتاب الله تعالى " .
وإن كانت الهبة في يد المُتَّهب وديعة أو عارية ، فوهبها له ؛ فاستدامته لها تكفي عن قبضها ابتداء .
وتصح هبة الدين لمن هو في ذمته ، ويعتبر ذلك إبراء له ، ويجوز هبة كل ما يجوز بيعه .
ولا تصح الهبة المعلقة على شرط مستقبل كأن يقول : إذا حصل كذا ؛ فقد وهبتك كذا .
ولا تصح الهبة مؤقتة ؛ كأن يقول : وهبتك كذا شهرا أو سنة ؛ لأنها تمليك للعين ؛ فلا تقبل التوقيت ؛ كالبيع ، لكن يستثنى من التعليق تعليق الهبة بالموت ؛ كأن يقول : إذا مت ؛ فقد وهبتك كذا وكذا ، وتكون وصية تأخذ أحكامها .
ولا يجوز للإنسان أن يهب لبعض أولاده ويترك بعضهم أو يفضل بعضهم على بعض في الهبة ، بل يجب عليه العدل بينهم ؛ بتسوية بعضهم ببعض ؛ لحديث النعمان بن بشير : أن أباه أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحله نحلة ليشهد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أكل ولدك نحلت مثل هذا ؟ فقال : لا . فقال : " أرجعه " . ثم قال : اتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم متفق عليه ، فدل على وجوب العدل بين الأولاد في العطية ، وأنها تحرم الشهادة على تخصيص بعضهم أو تفضيله تحملا وأداء إن علم ذلك .
وإذا وهب الإنسان هبة وقبضها الموهوب له ؛ حرم عليه الرجوع فيها وسحبها منه ، لحديث ابن عباس مرفوعا : العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه فدل هذا على تحريم الرجوع في الهبة ؛ إلا ما استثناه الشارع ، وهو الأب ؛ فله أن يرجع فيما وهبه لولده ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي ولده ، رواه الخمسة وصححه الترمذي .
كما أن للوالد أن يأخذ ويمتلك من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه ؛ لحديث عائشة : إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم ، رواه الترمذي وحسنه ، ورواه غيره ، وله شواهد تدل بمجموعها على أن للوالد الأخذ والتملك والأكل من مال ولده ما لا يضر الوالد ولا يتعلق بحاجته ، بل إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : أنت ومالك لأبيك يقتضي إباحة نفسه لأبيه كإباحة ماله ، فيجب على الولد أن يخدم أباه بنفسه ، ويقضي له حوائجه
وليس للوالد أن يتملك من مال الولد ما يضره أو تتعلق به حاجته ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا ضرر ولا ضرار .
وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه ؛ لأن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبيه يقتضيه دينا عليه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنت ومالك لأبيك فدل على أنه لا يحق للولد مطالبة والده بالدين ، وقد قال الله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا فأمر سبحانه بالإحسان إلى الوالدين ، ومن الإحسان إليهما عدم مطالبتهما بالحق الذي عليهما للولد ، ما عدا النفقة الواجبة على الوالد ، فللولد مطالبته بها ، لضرورة حفظ النفس إذا كان الولد يعجز عن الكسب ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف .
والهدية تذهب الحقد وتجلب المحبة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : تهادوا ؛ فإن الهدايا تذهب وحر الصدور)
ولا ينبغي رد الهدية وإن قلَّت ، وتسن الإثابة عليها ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية ويثيب عليها ، وذلك من محاسن الدين ، ومكارم الشيم .
بالملخص الفقهي للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوازان
يبقى جزء المعاملات المالية المعاصرة غير موجود للمعلومية .
اتمنى يفيدك ولاتنسانا من دعاااءك بالتوفيق
|