#
وقت مستقطع بعيدًا عن الزمن ..!
تستيقظ سلمى صباحًا ، وترقب حركة المنزل المضطربة والاستنفار الذي يحلّ على أهله آنذاك ، لأجل الخروج للمدارس أو العمل ، يخرج الأغلبية وينام الباقون ، وتبقى هي مستيقظة ، وفي تمام الساعة السابعة ، يبدأ وقتها بالاستطالة ، فيتخيل لها أن النهار لن ينقضي أبدًا ، كانت فيما سبق ، ساعتها السابعة موعد خروجها للجامعة على مدى أربع سنوات مضت ، وكان الوقت آنذاك منذ تلك الساعة السابعة إلى نهاية النهار تقريبًا ، منزويًا متواريًا في كومة مشاغلها ، فماكانت تشعر بمرور الوقت ، وهي في خضمّ مشاغلها غير المنتهية ، فلا تجد فراغًا خاليًا في ذهنها ، ولا وقتها ، ليتسلل من ذلك الفراغ إلى عقلها بالتدريج سؤال ، يكبر وينمو ويتفاقم ويتضخم ثم يكتسح انعطافات عقلها المعقدة مسيطرًا ، فحواه : ماذا بعد ؟
حينما كانت منشغلة بالتفوّق في دراستها ، كان عقلها خاليًا !
خاليًا من الفراغ الذي يفتح أبواب الشر المستطير ، من الفراغ وفي الفراغ تقبع هناك في أحد غرف المنزل كل صباح ، لاصوت يستثير ذهنها ، لا حركة تشحذ قواها وتشغلها ، تطيل المكوث هناك وحسب ، تنظر إلى الجدار تتخيل أن بعض بقع الطلاء العشوائية رسومات متقنة ، هذا وجه وهذا أرنب وهذه امرأة مختمرة وهذا دولفين ...! ، تنقطع تمامًا عن العالم ، تشعر بأنها في نقطة ثابته خارج الزمن وكل الكون ومخلوقاته من حولها في حركة دائبة ، فقط هي تقبع هنا بلا حراك ، تفكر ، من أنا ، ولمَ ، وكيف ، ومتى ، ومنذ متى
تفكر كثيرًا دون أن تتوصل لنتيجة ، تصل دائمًا لذات البحر المتلاطم الذي بدأت منه ، تفكر في العالم وفي الناس ، في التاريخ ، وفي مجريات الأحداث المعاصرة التي مازالت تنحشر كل يوم في زاوية ضيقة جدًا ، والمخرج الوحيد من تلك الزاوية مموّه بما لايدع مجالًا للشك بأن المخرج يكمن هنا .
تفكر بماذا قدمت وماذا تقدم وماذا ستقدم ، للأمة للدين ؟ ولو أمرًا واحدًا يجعلها تبتسم حينما ترقد على فراش الموت ، تفكر بخط تطوّر ذاتها ، هل هو في صعود أم هو متذبذب أم هو صعد إلى نقطة معينة بجهد جهيد لدفعه لأن يصل لتلك النقطة ، ثم وبعد انحسار قوة الدفع تلك ، خرّ ساقطًا ومازال يتردى ويتردى ! ، ينبغي أن دراستها الجامعية قد أضافت لها الكثير ، مالذي أضافته ؟ أين تكمن هذه الإضافة ؟ هل لاحظها الآخرون ؟ وقبل ذلك هل لاحظتها هي ؟
تسعى لإكمال دراستها العليا ، كما تسعى للحصول على وظيفة ، تتفكر في غايتها من وراء تلك الرغبات ، فتجدها مشوههة كثيرًا ، عما كانت عليه قبل سيطرة الفراغ على تفاصيل حياتها ، ومنعطفات عقلها ، هل الفراغ كان عامل تمحيص لها ، وكاشف لخبايا كثيرة في نفسها ، كانت لاتجد لها مساحة حرة بين كومة مشاغلها ، ثم خلا لها المكان وطفت على السطح ، لتظهر وحدها ويتمحور حولها التركيز والتفكير ، فتظهر بدون تلك الأغطية المنقوشة الجميلة ، تظهر عارية بشعة ، فتكون صادمة لذلك الفكر الذي كان مغشى و مغطى بتلك الأغطية زمنًا طويلًا ، حتى ظُنّ واعتُقِد بأن هذه الأغطية هي اللب ذاته .
تفكر بأن العلم لايقتصر على مدرسة أو جامعة ، بل تجد في كثير من الأحيان ، أن المؤسسات التعليمية لم تعلّم أحدًا قط ، هي فقط وسيلة لاكتساب خبرة مجتمعية ، ثم تقذف بالكثير من الخريجين والخريجات في ميدان الحياة ، ليتعاملوا بقليل من تلك الخبرة المجتمعية ، وينسوا ماتلقنوه من علوم على مدار السنين ، بل الأنكى من ذلك أنهم وبعد تلك السنين ، لايدركون ما للعلم من أهمية ، فلا يسعون لتعليم ذواتهم ، ولايبقى إلا قليل مما تناهى إلى عقولهم من تلك العلوم التي تلقنوها ، وذلك القليل معرض بالتدريج لآفة النسيان ، لأنه لم يكن إلا علائق تحاول اقتحام حائط صلب للتعلق به ، تُلقى تلك العلائق في أقرب فرصة -في أوراق الامتحانات- ثم لايكون لها أثر يُذكر .
تفكر في المستقبل في الزواج والإنجاب والتربية ، فتجد أنها تفر من التفكير في هذا فرافرها من الأسد ، فمن هي لتكون أمًا مربية للأجيال ! ، من هي لتنجب أفرادًا جددًا إلى هذه الحياة الدنيا الدنيّة ! ، فلا تستطيع الإحسان في تربيتهم ، ولو حرصت ، فينشأون كما نشأت هي ويصلون لهذه المرحلة التي يختلط عليهم فيها الأمر ، فلا يجدون جدوى من وجودهم في الحياة ، وأنهم لم يضيفوا شيئًا لهذا الدين وهذه الأمة ، وأنهم وبعد عمر طويل مازالوا ثابتون في نقطة ثابتة ، ولم يتقدموا قيد أنملة ، في حين كان عليهم تجاوز تلك النقطة بمئات الأميال ، وكل شيء حولهم في حالة حراك دائمة .
تقرأ بعض الكتب ، ولا تكمل كتابًا واحدًا ، تتنقل بين عشرات الكتب ، بعضها لاتتجاوز مقدمته وبعضها لاتتجاوز فصله الأول ، تبحث عن شيء لاتعرف ماهو ، ولكنها في رحلة بحث دائمة عن ذلك المجهول ، يتراءى لها أنها تريد ذاك ، وحينما تصل إليه يخالجها شعور ، بأن ماتريده أبعد من هذا ، ثم تواصل البحث عن أمر بدا لها أنه هو ماتبحث عنه ، وإذا وصلت إليه لم تجد فيه بغيتها ، وهي على ذلك النحو مستمرة في البحث عن مفقود مجهول !
تستطرد في قراءتها كثيرًا وتتشتت ، فإذا ماورد فيما تقرأه أمرًا لاتفقهه ، تنحّي الكتاب الذي بين يديها وتتجه للبحث عن معلومات عن ذلك الأمر الذي لاتفقهه ، تغوص في القراءة عنه ، حتى تنسى أين كانت ، ثم تعود لكتاب آخر وتبدأ من جديد ، تريد أن تكسب ثقافة موسوعية ، ولكنها تجهل من أين تبدأ ، وإن بدأت تجهل أنها قد بدأت ، يخيّل إليها أحيانًا أنها قد وصلت لبداية الطريق ، فتسير فيه بضع خطوات ، ثم تشعر أنها في طريق غير صحيح ، فتنحرف للبحث عن طريق آخر ، وهكذا ، مرّ وقت طويل وهي تبحث في بدايات الطرق عن طريقها ، ولم تبدأ بعد ، وربما بدأت ذات مرة غير مدركة بدايتها ، ولكنها أضاعت فيما بعد الطريق !
تنظر للعوالم حولها ، فتجد أنهم منشغلون بما لاينبغي الإنشغال به ، ضاربون بما ينبغى الإنشغال به في عرض الحائط ، فتزيد شتاتًا وضياعًا ، تريد أن تتيقن وتستكنّ بفكرة أنها على خطأ وأنها في ضياع ، لتحزم أمرها وتسلك السبيل الذي تتقلص عنده احتمالات الوجهة الخطأ أكثر من أي سبيل آخر ، فتنظر في العوالم المتحركة حولها ، فتشك في أنها على خطأ وأنها ضائعة ، بل هي قد وصلت منذ زمن ، فكل متحرك حولها يدور في حلقة مفرغة كما تدور هي ، أتلك الحلقة هي المكان والزمان وهي الطريق المؤدي إلى المبتغى ، وقد يكون المبتغى في نهاية المطاف لا شيء ! إنه مجرد حاجة خادعة تشعرها بضرورة البحث عن شيء ، حتى تسلك جميع السبل ، وتستنفذ جميع المحاولات في البحث عن اللاشيء ، لأجل أن تعبر تلك الرحلة من اللاشيء إلى اللاشيء ، فتجد أخيرًا أنها عبرت من خلال تلك الامواج المتلاطمة ، وكان العبور بما حواه ، هو الغاية !
تقضي سلمى يومها وهي تدور وتدور باستمرار في هذه الحلقة المفرغة
لسلمى أسئلة ، ليدور حولها محور الحديث
هل وجدتم أنفسكم ؟ بمعنى أوضح ، هل وجدتموها على الهيئة التي تريدون ؟
إن كنتم وجدتموها غير واهمين ، كيف تمّ لكم ذلك ، وأي الطرق سلكتم للوصول ؟
وهل أنتم واثقين بأنها هي الهيئة التي بحثتم عنها مطولًا ؟
إن كنتم لم تجدوها بعد ، فكيف ستجدونها ؟
- سلمى ، هل تشاركونها فيما يدور بخلدها ، وماهو ذاك الذي يحدث جلبة في نفسها ؟
كالجلبة التي قيل عنها نسمع جعجعة ولا نرى طحنًا !؟
أنتظركم