د.مطلق سعود المطيري
الخروج من النص
البيجماليون وجلاتيا..
جميل أن يكون لك حلم، وأجمل ما فيه أن يكون حلماً أبياً هارباً، والأروع أن تكون قادراً ومصراً على ملاحقته دون يأس، إذا أسلم لك الحلم نفسه أو بعضاً منه دون مقاومة فقد قيمته، وإن راوغ ارتفعت فيه القيمة إلى تخوم المحال، حلم زئبقي في قبضة يدك ، كلما أمسكت بطرف منه انفلت كله من الطرف الآخر، يمنيك بدنو التحقق واقتراب الوصول ليستدرجك إلى أفق جديد، لا تستسلم فأنت الآن تمارس متعة الصيد وملاحقة فريسة تعابثك..، أطلق خيالك مثل صقر مدرب خلفه ومتع ناظريك بالمناورة، فإن عدت صفر اليدين كان أمامك الغد لرحلة جديدة، ويوماً ما – إن استسلم لك الحلم – ستدرك أنه في ذاته لم يكن له أي قيمة، كل قيمته فيما منحك من تعب السعي وشرف المواصلة، على دروبهما اكتسبت خبرة وتعلمت دروساً..
هذا معنى أساسي في قصيدة شاعر جميل، كفافيس، عن ايثاكا الفقيرة التي ترك عاهلها كل مغريات الثراء والملك، ليعود إليها، هي بلد بلا قيمة لكن عظمتها في أنها تعطيه الدافع للرحيل، ومع الإبحار إليها تتكرر التجارب كل يوم وتزداد الدروس ..
جالاتيا كانت حلماً آخر لبيجماليون، أراد امرأة من محال صنع لها مجسما من الحجر، ووضع فيه كل ما أراد من شفافية الجمال، نسي أنه حلم حجري وأحب المرأة في مجسمها، وعندما أحس بدفء يسري فيها ظن أنه أمسك بالحلم، لكنها رفضته وتمردت عليه، ليظل الحلم حلما لا يطال..
لا تخلط أوراقك بين الواقع والحلم، فالحلم مادته من هواء لن تراها إلا إذا أغمضت العين وتركت الخيال يهيم ليأتيك بكل طيف يعشقه فكرك، فإن قلبَت يداك في الحلم درراً من كنوز الدنيا ما أن تفتح عينيك حتى ترى يديك تقبضان على فراغ، ولا تتعامل مع واقعك بصيغ الأحلام، أمسك به وأوسعه عذابا حتى يستجيب، واهزمه قبل أن يهزمك، ففي صراع الإنسان والحياة لابد أن يكون هناك فائز منتصر وضحية، ولا تتركه لغيرك يصوغه على هواه فأنت المالك الوحيد له، خطيئة بيجماليون أنه استجلب واقعه من ساحات الأحلام، وأنه تعامل مع أحلامه بشروط الحياة، في الحالين كان سقوطه مروعاً وحزيناً...!
أمتنا العربية أيضاً لها واقعها، الزاخر بكل الإمكانات، والمتفجر بكل القضايا، من حقنا أن نسومه عذابا حتى يستجيب، ولها أحلامها في الأمن والعدل والسلام.. ألاحظ أننا نعالج قضاياها بوضع الخطط والمشروعات، مشروع لإحلال السلام بالمنطقة، مشروع آخر بنزع أسلحة الدمار من المنطقة، نحن أصحاب تلك المشروعات ومالكوها الوحيدون، ندور بها على المحافل الدولية والمنظمات ونحسن شرحها، تبدو مقنعة وعادلة، ثم لا شيء، نبدأ في اللهاث خلفها كما لو كانت تلويحة من الآخرين تغرينا بالمواصلة، نحن الذين قدمناها فكيف أصبحنا نلهث خلفها؟! لابد أن هناك خطأ لم نحترز له، فإما أن نكون قد استجلبنا واقعنا من ساحات للأحلام، وإما أن نكون قد رغبنا في التعامل مع أحلامنا بشروط الواقع ..