[هذيان]

أحمد عبدالرحمن العرفج



الدَّولَةُ وَالقَبِيلَة ..!

هَل تَطوَّرت الدَّولَة العَربيَّة؛ وانتَقَلَت مِن مَفهوم العَشيرة والقَبيلة إلى مَفهوم الدَّولة الحَديثَة..؟!
هَل تَحرَّرت مِن تُراثها المَليء بالمَفاهيم المُتعلِّقة بحُكم الفَرد..؟!
الإجَابَة هِي أن الدَّولة العَربيّة المُعَاصرة، أقرَب إلى حَالة البَداوة مِنها إلى الدَّولة الحَديثة، كَمَا يَرى ذَلك الرِّوَائي الكَبير عَبدالرحمن مَنيف، إذ يَقول بأنَّها (حَملت فِي دَاخلها صِفة القَبيلة، وهي تُشيِّد، وهي تَتَعَامَل، وحين تُصالِح أو تُحارِب، فالشَّاعر الذي كَان رَمز القَبيلة، المُدَافع عَن أمجَادها، الهَاجِي لخصُومها، النَّاطِق باسمها، مَا لَبث أن طُلب مِنه أن يُواصِل المُهمَّة نَفسها، وأن يَقوم بالدُّور القَديم نَفسه، وإذا لَم يَمتثل يُصبح مُتمرِّداً، ثُم خصماً، ولأنَّ الطَّرفين «الدَّولة والشَّاعر المُثقَّف» تَطوُّرا ضمن مَقاييس مُختلفة، وبَعض الأحيَان سياقَات مُتعارضة، فكَأنَّ الخصُومة كَانت مُرشَّحة للاتِّسَاع والامتِدَاد.. تَالياً: كَان يُعتبر الشَّاعر أو المُثقف -بصُورة عَامَّة- الشَّخص الذي يَجب أن يَكون أمثُولة في حَالتي الرِّضَا والغَضب، إذا شَمله الرِّضَا، فإنَّ كُل وَسائل الإعلَام الحَديثة -المَسموعة والمَقروءة والمَرئيّة- تَحت تَصرّفه، ويُمكن أن تُحوّله بين لَيلة وضُحاها إلى نِجم، أمَّا إذا حَصل العَكس، فإنَّ التّغييب والتَّجويع والمُلاحقة بِداية مُحاولة التَّرويض، فإن لَم تُجدِ أو لَم تُكفِ، فالسِّجن والاضطهاد، وربَّما أيضاً الحَذف المَادي، كُل ذَلك بحجّة حمَاية الأمن القَومي، والمَصلحة الوَطنيّة)!!
وكُتب الأدب تَروي لنا أنَّ الإسكندر المَقدوني قَد عَاقب شَاعراً لجُرمه، إذ يَقول أبوحيان التَّوحيدي فِي «البَصائر والذَّخائر»: «إنَّ الإسكندر غَضب عَلى شَاعر فأقصَاه، وفَرَّق مَاله فِي الشّعراء، فقيل لَه: لقد بَالغت فِي عقوبته. قَال: أمَّا إقصَائِي إيَّاه فلِجُرمه، وأمَّا تَفريقي مَاله فِي أصحَابه الشّعراء فلئلَّا يَشفعوا فيه»!!
فإذا كان الإسكندر المَقدوني قَد عَاقب شَاعراً لجُرمه، فإنَّ بعض الأنظِمَة العَربيّة تُحاكم النَّوايا وتُعاقِب عَلى مَا سوف يَكون!!
ويُعلِّق الرِّوائِي مَنيف عَلى هَذه القصَّة بقَوله: ... الإقصَاء الحَاصِل للشّعراء، والعقُوبَات التي تُوقَّع عليهم، وتَفريق مَالهم أيضاً لا يَكون لِجُرم، وإنَّمَا للخيَالات والأحلَام التي تَملأ رؤوس وقلوب هَؤلاء، ولأنَّهم يَتطلعون إلى غَد أقل عَذاباً ومَهانة بالنّسبة لَهم، وبالنّسبة لجَميع النَّاس)!!
إنَّه كَلام مُشرق مِن مَنيف، ولكن أتحفَّظ كَثيراً عَلى عِبارة: «لأنَّهم يَتطلعون إلى غَد أقل.. الخ»، إذ لَم يُعرف عَن كَثير مِن الشّعراء أو المُثقَّفين حَمل همُوم الآخرين!!
وفي قصّة الإسكندر خَاتمة مُدهشة، إذ تَروي كُتب الأدب أنَّ هَذا المَقدُوني الذي عَاقب شَاعراً لجُرمه طَلب مِن الذين حوله –لمَّا حَضرته الوَفاة- ألا تُوضَع يَداه دَاخل الكَفَن، لكي يَراهما الجَميع، وليَتأكَّدوا أنَّهما فَارغتان، فهَل يَجرؤ أي مِن اليَعربيين أن يُبقي يَديه خَارج الكَفن؟!
اللَّهمَّ ردّنا إليك رَدًّا جَميلاً!!.