شايع بن هذال الوقيان
ما فائدة الفلسفة ؟
أذكر قبل عدة سنوات وأنا أقرأ كتابا في الفلسفة ـ هو على ما أذكر مبادئ الفلسفة الذي ترجمه أحمد أمين ـ حينما سألني أحد الأصدقاء الطيبين سؤالا جادا: ما فائدة الفلسفة التي تنوي ترك الأدب والشعر من أجلها؟ وقد كنت في سالف تلك الأيام معروفا بشغفي بالأدب والشعر. وكان صاحبي يعتبرني شاعرا رغم أنني لا أقول الشعر!، وربما أنه هو من نشر بين أبناء القرية أنني شاعر، مما دفع شيوخ القبيلة إلى أن يطلبوا مني أن أشنف أسماعهم بالشعر (وكانوا يعتقدون أن الشعر الحقيقي هو فقط الشعر العامي)، وأحيانا يرغمونني على إنشاء قصيدة حينما يتطلب الموقف قول الشعر. فكنت أهرب منهم هرب الصحيح من السليم، (هل كنت أنا الصحيح وقتئذ؟ الله أعلم)، فإذا ما احتد الموقف بي اضطررت إلى أن أستعير قريحة المتنبي أو أبي تمام، فهما ـ على كل حال ـ غير معروفين لرجال القرية، ولو استشهدت بشعراء «النبط» المعروفين لكشفوا أمري بسهولة!
لم يكن المتنبي وأبو تمام يعنيان شيئا لهم. إنهم كائنات غريبة على الأسماع!. فالشعر الفصيح يحتاج إلى سياقٍ عام يحتضن الشاعر والمتلقي بداخله لكي يكون للشعر معنى وقيمة تواصلية. وبنفس الطريقة التي لم يكن بها الشعر الفصيح يعني لأهل القرية شيئا فإن الفلسفة لم تكن تعني لصاحبنا؛ مروج الإشاعات، شيئا. فقد كان سؤاله فضوليا إلى درجة مزعجة: ما فائدة الفلسفة؟!!
رغم يقيني بأن هذا السؤال المزعج قد طرح في كل العصور على كل الفلاسفة وعلى كل محبي الفلسفة، إلا أنه رغم كل ذلك سؤال وجيه في بادئ الأمر. ولكن السؤال طريق ـ كما يقول هيدجر الذي لا يعني لصاحبنا شيئا ـ إنه طريق ولكنه طريق مسدود في هذه الحالة. فهذا الطريق لن يؤدي إلى جواب، لن يدخل بأحد إلى قصر الفلسفة المنيف. والسؤال الحقيقي الذي سوف يلج بنا جميعا إلى قلب الفلسفة هو: ما هي الفلسفة.
فلدينا الآن سؤالان؛ السؤال الأول: ما فائدة الفلسفة؟، والسؤال الآخر: ما هي الفلسفة؟.
فلنأخذ السؤال الأول ونبدأ منه رحلة البحث عن الجواب. إذا كان ثمة جواب طبعا.
إن هذا السؤال يطرح على الفلسفة من خارجها. ولكنه لا يتقدم بصاحب السؤال لكي يدخل به إلى قلبها. وهنا المشكلة. فلن يتمكن أحد من إعطاء جواب لهذا السؤال مادام مطروحا من خارج الفلسفة.
ما فائدة هذا السؤال أصلا؟ إذا اطرحنا الفضول السلبي جانبا؛ حيث أن كثيرا من الناس يسأل السؤال من أجل الثرثرة فقط وليس من أجل معرفة الجواب. أقول إذا طرحنا هذا الفضول جانبا سنعرف أن الباعث الذي دفع السائل إلى السؤال ربما يكون كالتالي: إنني أسأل عن فائدة الفلسفة لكي أعرف ماذا سيحصل لي عندما أتعلم الفلسفة، وماذا سأستفيد أنا منها. إذن هو لا يسأل سؤالا بريئا صيغته هكذا (ما فائدة الفلسفة) بل إن صيغته الحقيقية المضمرة هي هكذا (ما فائدة الفلسفة لي)!!. وهنا بالضبط حجر العثرة، هنا ينغلق الطريق المؤدي إلى الفلسفة. ولذلك فإن هذا السؤال يزعج الفلاسفة ويجعل أنوفهم تضطرم غضبا وحسرة. لأنهم يعلمون تمام العلم أن السائل لن يصل أبدا إلى الفلسفة. وسوف يضيع عليه السؤال الثاني (ما هي الفلسفة) والذي كان الأجدر به أن يكون السؤال الأول.
فلنتأمل هذا السؤال: ما هي الفلسفة؟ إن السائل هنا يريد أن يعرف شيئا مجهولا بالنسبة إليه، إنه ينطلق من جهله، مما يجعله ينفتح على ماهية الفلسفة لمعرفتها. الطريق مفتوح هنا وسالك. أما صاحب سؤال الفائدة فهو يدعي المعرفة بالفلسفة ولكنه يسأل عن فائدتها. وهو ادعاء مزيف بكل حال. لأن كل امرئ يعرف ما هي الفلسفة لن يتجرأ على طرح هذا السؤال المزعج: ما فائدة الفلسفة، لن يتجرأ لأنه أصبح بحضرة الفلسفة وأمسى داخلها وعرف أنها أكبر من أن تكون وسيلة تؤدي إلى غاية أقل منها شرفا وسموا؛ وأقصد بها الغايات المادية والنفعية.
إذن فعلينا لكي نكون أكثر تعقلا أن نتوقف عن طرح سؤال الفائدة ونتمسك بطرح سؤال الماهية. لنتصور أن إنسانا خاليا من الحس الجمالي والتذوق الفني يسألنا سؤالا كهذا: ما فائدة الفن أو الشعر؟! بالتأكيد إنه سيزعجنا إذا كنا نحب الشعر ونمكث في داخله ونعرفه جيدا. وسنقول له: تعلم أولا حب الشعر وتذوق الجمال ثم تعال لنخبرك بالفائدة التي ستجنيها منه. وحينما يقوم بهذا العمل؛ حينما يصبح ـ بقدرة قادر ـ ذواقة للشعر فلن يتجرأ على طرح سؤال: ما فائدة الشعر.
ونحن هنا، نود لفت الانتباه، إلى أن الفائدة التي نحاربها هي الفائدة العملية والمادية والنفعية وليست الفائدة الروحية والعقلية التي يمكن أن نعرفها بكلمات كثيرة ولكننا لن نوفيها حقها ما لم ندع السائلين عنها إلى الدخول فيها. أجل، يجب أن يعيشوا ويستمتعوا بالفائدة الروحية العظيمة التي يجنيها متذوق الفن من الفن ومحب الفلسفة من الفلسفة. فلنعشها أولا، ولنشعر بها أولا. وعندئذ لن نتجشم عناء الجواب عن سؤال مزعج كهذا. ولنتمسك بسؤال الماهية (ما هي الفلسفة؟ ما هو الفن؟) لأنه سيأخذنا مباشرة إلى تلك القمم السامية التي تمخضت عنها عبقرية الإنسان والجانب الإلهي فيه. أما إذا طرح شخص ما سؤال الماهية بنفس غير مفتوحة وبفضولٍ سلبي فإن سؤاله هنا مزيف وأسوأ من سؤال الفائدة ؛ لأنه يسأل عن ماهية الفلسفة دون أن يكون مرنا بما فيه الكفاية ليخطو الخطوات الأولى نحو الفلسفة..