عادل بن زيد الطريفي
باراك أوباما.. لاعب الشطرنج الذكي
مضت الآن قرابة الستة أشهر على تنصيب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والذي كان بحق حدثا عالميا شاهده مئات الملايين حول العالم. وإذا كان أوباما قد استطاع أن يسحر بكاريزميته الملايين في أمريكا وأوروبا –بل والعالم- فإن تقرير الأداء للستة الشهور الأخيرة تحمل نتائج متناقضة، ففي حين تتصاعد شعبية الرئيس الجديد في العالم –لاسيما في أوروبا- فإن شعبيته في الداخل تتراجع بشكل مقلق في الأسابيع الأخيرة تحت وطأة التباطؤ الاقتصادي الأمريكي. في ألمانيا يعتقد أكثر من 92 بالمائة من الألمان أن أوباما بإمكانه العمل على تغيير العالم إلى الأفضل، مقارنة ب 14 بالمائة كانت تدعم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، ولكن في أمريكا انخفضت شعبية الرئيس أوباما –وفقا لاستطلاعات "بيو"- إلى ما دون 56 بالمائة بعد أن كانت تتجاوز 63 بالمائة في أبريل الماضي، بل إن طرح الثقة بوعوده تضاعف من 20 بالمائة إلى 39 بالمائة وهو رقم مثير للقلق لرئيس لم يتجاوز الستة أشهر في البيت الأبيض. في ظل هذه الظروف الواقعية –البعيدة عن شعارات التغيير- تصبح إعادة قراءة باراك أوباما أمرا ضروريا، لاسيما أن أمريكا –بل والعالم- بات منقسما حول هذا الرئيس، فهل هو الرئيس القادر على التغيير كما يتمنى الكثيرون، أما أنه يعد ما لا يملك، يتحاشى فتح الملفات، ويدور في حلقة علاقات عامة لا تقدم أو تؤخر في قضايا العالم الشائكة شيئا.
في كتابه الهام "المذهب الرئاسي" يشرح جين هايلي الكيفية التي أصبح بها الأمريكيون أكثر ميلا للتعويل على رؤسائهم بطريقة غير واقعية، وفي أحيان، أقرب إلى أن تطلب المستحيل، وكيف أن هذه الثقافة ولدت جيلا من السياسيين همهم تسويق أنفسهم كمخلصين ورواد تجديد وتغيير، وحيث يطلقون وعودا كبيرة ورنانة دون أن يكون بإمكانهم تحقيق ولو اليسير منها. لهذا فإن الرئاسة الأمريكية هي مزيج من التبجيل –والسلطة الحقيقة- وسلسلة من الإخفاقات والتعجل السريع في المشروعات. ليس هذا تعميما يشمل الرؤساء الأمريكيين، ولكنها نمط متكرر من الآمال والوعود التي تفوق مقدرة أي رئيس في فترة ولاية يطمح فيها إلى الأخرى.
لو أردنا أن نقيم أوباما في ضوء ما يقوله هايلي، فإننا نستطيع أن نتلمس ملامح أوباما الحقيقة بعيدا عن التجميل –والتزويق- الإعلامي، والتي تتمثل بمحورين رئيسيين: أولهما، أن الرئيس الأمريكي خلق هالة من الإعجاب حوله باتت تثقل كاهله، لأن وعوده الزائدة عن الحد داخليا وخارجيا وضعته أمام أجندة عمل لا يستطيع أن يقوم بها فريق من الرؤساء في عقد، فضلا عن رئيس واحد في فترة رئاسية واحدة. ثانيا، أن أولويات الرئيس باتت مشتتة ما بين الداخل والخارج، بحيث بات الكل يعتقد بأن أوباما سيضطر لا محالة إلى تأجيل قضايا الخارج لحلحلة أمور الداخل التي باتت تتراكم بشكل صعب على جدول الرئيس الممتلئ بالأصل.
لقد وعد أوباما أن يجعل أمريكا أكبر دولة من حيث عدد الخريجين الجامعيين بنهاية عام 2020، كما وعد بإعادة بناء طرقات وجسور وموانئ أمريكا –وغيرها من البنى التحتية المتآكلة- في غضون عشرة أعوام، إلى الحد الذي وعد فيه بإصلاح النظام الصحي بالكامل وتوفير الضمان الصحي لملايين الأمريكيين، وغيرها من وعود الداخل. أما اقتصاديا، فإن الرئيس وعد بتقليص دورة الركود الاقتصادي بنهاية النصف الأول من العام القادم، وتوفير ملايين الوظائف للأمريكيين، وإقالة البنوك والمؤسسات المالية من عثرتها، وإنقاذ صناعة السيارت والمحركات.
أما على الصعيد الدولي، فقد وعد بتحجيم التهديد النووي الكوري، وإجبار إيران على التخلي عن مشروعها النووي، وتحقيق سلام دائم وشامل في الشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من العراق، وإعادة الانتشار في أفغانستان للقضاء على القاعدة وطالبان والقبض على بن لادن. كما وعد الرئيس الملايين حول العالم بتغيير سياسة أمريكا نحو الاحترام والشراكة، ونبذ التصرفات المسيئة كتعذيب المعتقلين، وإغلاق غوانتناموا مع نهاية العام، وتوفير المساندة التنموية، والرعاية الاقتصادية للملايين في أفريقيا.
كيف تصرف أوباما؟ برأيي، أن الذين يطالبون الرئيس الأمريكي بتغيير كل شيء، ومعالجة كل أزمة يبالغون فيما يرجونه منه وما يستطيع فعليا القيام به. حتى الآن أثبت أوباما أنه بوسع أي رئيس أمريكي أن يغير رؤية العالم لأمريكا، بل يمكننا القول إن أوباما استطاع أن يلطف من جو الكراهية والذم الملازمتين لأمريكا منذ عقود، إلى الحد الذي بات معه أعداء وخصوم أمريكا أكثر حذرا من توجيه الانتقاد له كشخص وتفضيل مهاجمة السياسة الخارجية الأمريكية. من كاراكس حتى جاكرتا، ومن القاهرة، مرورا بالرياض، وانتهاء في موسكو، يتمتع أوباما في أقل الأحوال بالاحترام والإعجاب حتى لو اعتقد البعض بعدم إمكانية تغييره للأوضاع الراهنة، وهذا بحد ذاته مكسب تاريخي. لقد حظي موقف الرئيس أوباما –مثلا- من انقلاب هندوراس بإشادة أغلب زعماء القارة اللاتينية، واعتبر إصراره على عدم التدخل في الأزمة الإيرانية تحركا حكيما وذكيا.
بيد أن البعض يلوم إدارة أوباما بالتباطؤ الممل، وأحيانا بالتردد والخوف، من اقتحام بعض الملفات الدولية الشائكة، فهي –أي إدارة أوباما- لم تتخذ أية خطوات ملموسة فيما يتعلق بتجارب كوريا الشمالية المثيرة للجدل، كما أن البعض يرى أن موعد الانسحاب الأمريكي من العراق قرار متعجل لاسيما وأن بعض القادة العراقيين –أنفسهم- يحذرون من عدم جهوزية القوات الأمنية العراقية. أما فيما يخص الشأن الإيراني فإن قرار أوباما السعي إلى الحوار مع طهران –بغض النظر عن الأزمة الراهنة- قد اعتبر إقرارا بشرعية الرئيس نجاد والمرشد الأعلى المهتزة في رؤية كثير من الإيرانيين، وبخصوص الشرق الأوسط فإنه وبعد تعيين أوباما المفاوض جورج ميتشل فإنه لم يصدر حتى الآن من قبل الإدارة أي مشروع جدي يتعلق بعملية السلام، وحتى وعد أوباما بوقف الاستيطان قد قوبل برفض إسرائيل متحد ومهين –لاسيما وأن إسرائيل كان بإمكانها وقف الاستيطان مؤقتا لحفظ ماء وجه الرئيس.
بالرغم من كل ذلك، فقد وجد عجوز السياسة الأمريكية هنري كيسنجر، وداهيتها الأعظم، الوقت ليشيد بالرئيس الديمقراطي أوباما -وهو الجمهوري- في حوار له مع مجلة الديرشبيجل الألمانية واصفا إياه بالسياسي الواقعي الذي يفوق نظراءه من الرؤساء الأمريكيين، وأنه بحق أستاذ في لعبة الشطرنج السياسية، وقد بدأ اللعب بافتتاحية غير متوقعة ومفاجأة –كخطبته إلى العالم الإسلامي-، وهو ينقل أحجاره دفعة واحدة في وقت متزامن مفقدا خصومه القدرة على التنبؤ، ونحن بانتظار ما يستطيع تحقيقه من مكاسب بعد أن اشتبكت الأحجار بعضها ببعض.