الموضوع: من شرفة بيتي
عرض مشاركة واحدة
منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز
  #1  
قديم 24-12-2010, 02:07 AM
الصورة الرمزية AMINWALID

AMINWALID AMINWALID غير متواجد حالياً

جامعي

 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
التخصص: الاداب
نوع الدراسة: تعليم عن بعد
المستوى: معتذر
الجنس: ذكر
المشاركات: 27
افتراضي من شرفة بيتي





من شرفة بيتي












اخترت مساء اليوم الاستعاضة عن جلسة مقهى الحي بين الأصدقاء ، بالانزواء في أحد أركان شرفة بيتي .

قصد التفرغ لإتمام قراءة الكتاب الذي شرعت في تصفحه منذ مدة ، ولا زلت لم أتمكن من ختمه .

ركنت إلى مقعد بجوار مزهرية ضخمة ، تتوسطها شجرة جميلة ناشئة .

تحكي بخضرة أغصانها بهجة الحياة الناعمة السعيدة .

تقاوم بصمود وتحد كل ألوان تقلبات الطبيعة وتحاكيها .


تمثل أدق تفاصيل الحياة في أجل معانيها وأوضح صورها .

عدت إلى كتابي ، قلبته يمنة ويسرة ، أعدت قراءة عنوانه :

" رواية عائد إلى حيفا "

رفعت الكتاب وجذبت دفته الأولى .

رميته بسهامي فتجاوزته إلى ما تفضي إليه شرفة بيتي .

شوارع ممتدة بعيدة النهاية .

صفوف مصابيح الإنارة مصطفة على جنبات المسالك.

بنايات شاهقة مترامية هنا وهناك . تتخللها حدائق وملاعب ومنتزهات .


انشغلت عن هذا وذاك ، بتتبع حركة السير بملتقى الشارعين المتقاطعين عند ركن المجمع السكني الذي أنتمي إليه .

وكأني أشاهدها لأول مرة في حياتي .


حركة منضبطة بإشارات مصابيح كهربائية .

ملتزمة بالاستجابة لوصول التيار ونوع اللون الذي يصدره .

قوافل السيارات وأفواج الراجلين تتناوب الحق وتنصاع بتلقائية وطواعية .

ناذرا ما يحدث خلل أو تجاوز .

وكلما حل الخلل صاحبه الجزاء بوقوع كوارث لا تحتمل.

عجيب أمر هذا الاضباط .

مساطير اقتبسها الإنسان على منوال نواميس الكون وقوانينه .

كل فيه يسير بقدر ...

ومتى اختل توازن أو حدث تجاوز ، حل العطب والاضطراب .

كما في :

السقم بعد سلامة ..

والراحة بعد تعب ..

والكسب بعد عمل ..

والخوف بعد أمان ..

والفشل بعد استسلام وهوان ..

وهي سنن قائمة على مقياس :

لا إفراط ولا تفريط . وإلا كان الجزاء على قدر التجاوز.



أخذت نفسا عميقا وتذكرت كتابي .

وضعت عليه يدي هاما بتناوله . فدنت إحدى خمائل شجرة المزهرية ، مستجيبة لترانيم النسيم فلامست بلطف ظهر يدي .

سرت شرارة ملمسها عبر عروقي ، فنبهتني وصبت سيلا من الاستفهامات عبر شرايين مخيلتي .

فرددت مع نفسي :

يالجمال وفتنة هذه الشجرة !

هل تدري بهاء رونقها وقوة جاذبيتها ؟

وهل تعي قدر ما تضفي على المكان من جمال وجلال ؟

أم أنها تعيش كغيرها - فقط - لتستهلك و تفنى ؟

ركزت اهتمامي عليها .

أغصانها الفتية تطل من نوافذ بالجدع ، بترتيب فسيفسائي بديع ، خطته وقدرته يد أمهر الصناع وأحذقهم .

لكل غصن حيزه وزاده ، ينطلق من مصدره شرارة قاصدة عنان الفضاء .

الأغصان تجاري نسيم أيامها ورياحها صباح مساء .

تنعم بسكون لياليها متزودة بما أغدق عليها الفضاء من بخار وغبار وماء .

تستقي منها كل حين زادها ودواءها

تصبح مشرقة متلألئة ، وتمسي منكسة الهامة مطأطأة الرأس .



لعلها تعاني بدورها كما نعاني .

ولا تبث شجونها كما نبث ، ولا تتبرم كما نتبرم .



أراها واجمة مصغية متأملة .

فهل هي الآن منشغلة بحل ألغاز أفكاري قبل النطق بها ؟

وهل بإمكانها صياغة ردود مقنعة ملائمة أفهمها ؟



أيتها الفاتنة الصغيرة ..



إذا عجز لسانك ..

فأفصحي بحال مقامك.

وعبري عما تتقاذفه الأمواج في أعماقك .



بعد هدوء مطبق ، ووجوم متبادل بيننا ، اهتزت كل أطرافها ، وكأنها أصغت لهمسي وبعثت إشارة تعجم عودي وتوجه قوسي .




انطلقت أقص الشجون .

أعد المراثي .

أصنف الأحداث وفق ما خلفت من رزايا وآلام .



اقتربت الخميلة التي صافحت يدي ، وأخذت تربت على كتفي .

تواسيني وتردد :



لو كنت حكيما لنظرت إلى السقيم المحروم مما أنت به تتمتع .




وتذكرت الجائع وقت ازدحام مائدتك بما لذ وطاب .

ولأشفقت على البائس حين اقتنائك وارتدائك أزهى وأثمن الأثواب .

ولأحسست بلوعة أهل المفقود لما تستقبل عائدا من ذويك بعد طول غياب .


إنك - في نظري - ترفل في حلل نعيم العافية الحقة .

وتزهو بالأنس والرخاء والهناء المقيمة ، دون شعور منك ولا اكتراث ....




الشمس تميل نحو الغروب ، تستعد لإرسال مراجلها فوق مدرج قمة الجبل هناك .تطرزمرمرا بمرثية الأشجان ، وترسل أهازيج مرتلة عبر أوراق الشجيرة المنتصبة هنا بجواري .



أدرت وجهي نحو مخاطبتي وقلت :

أفحمتني وختمت على لساني ...



وأنت ...



قبل البوح بما أطلب ، قال لسان حالها :

حالي يكفيك عن التساؤل عني .

ألا ترى أني مجرد أثاث آني ، وفرجة عابرة ؟

أحس بكوني صغيرة ضئيلة في موقعي وفي أعين الناس .

أعيش فقدانا ماحقا وغربة قاتلة .

أشعر بالضيق والحسرة تخنقني .

تمنيت لو أني على ضفاف نهر متدفق .

أو على عتبة سفوح جبل شاهق .

أشكل مع غيري الأدغال الكثيفة ، والغابات الموحشة .

أنطلق من منبتي شهابا صاعدا أخترق كتل المزن ، وأسهم بدوري في خدمات تنقية الفضاء ، وتوفير النقي الصالح من الهواء ، وتشكيل وجه الطبيعة الخلابة الفيحاء ،


وأنهل وأرتوي ، وأنأى بنفسي عن بصمات الوهن ، ونظرات الاستخفاف ، وعبث الكبار والصغار ...



الشمس تستعد للرحيل .

تبعث خيوطا ذهبية مودعة قبل الانغماس في ظلمة الشفق .



أقفل النسيم .



هدأت الأغصان .



غارت المناجاة .



أسمع دبيب صوتها يبتعد ويأفل رويدا رويدا ،


ممتطيا أشعة النور التي انسحبت مع ترجل قرص الشمس ، وحبوه نحو مستقره.

بعدهنيهة ...

مات النهار .

أشاهد الجنازة ترتفع أمامي في افق البحر الغارب .

غادرت بدوري ،

تابطت - كعادتي - كتابي

وانصرفت عبر مسالك الزمان في هدوء ...










بقلمي


رد مع اقتباس