من شرفة بيتي
اخترت مساء اليوم الاستعاضة عن جلسة مقهى الحي بين الأصدقاء ، بالانزواء في أحد أركان شرفة بيتي .
قصد التفرغ لإتمام قراءة الكتاب الذي شرعت في تصفحه منذ مدة ، ولا زلت لم أتمكن من ختمه .
ركنت إلى مقعد بجوار مزهرية ضخمة ، تتوسطها شجرة جميلة ناشئة .
تحكي بخضرة أغصانها بهجة الحياة الناعمة السعيدة .
تقاوم بصمود وتحد كل ألوان تقلبات الطبيعة وتحاكيها .
تمثل أدق تفاصيل الحياة في أجل معانيها وأوضح صورها .
عدت إلى كتابي ، قلبته يمنة ويسرة ، أعدت قراءة عنوانه :
" رواية عائد إلى حيفا "
رفعت الكتاب وجذبت دفته الأولى .
رميته بسهامي فتجاوزته إلى ما تفضي إليه شرفة بيتي .
شوارع ممتدة بعيدة النهاية .
صفوف مصابيح الإنارة مصطفة على جنبات المسالك.
بنايات شاهقة مترامية هنا وهناك . تتخللها حدائق وملاعب ومنتزهات .
انشغلت عن هذا وذاك ، بتتبع حركة السير بملتقى الشارعين المتقاطعين عند ركن المجمع السكني الذي أنتمي إليه .
وكأني أشاهدها لأول مرة في حياتي .
حركة منضبطة بإشارات مصابيح كهربائية .
ملتزمة بالاستجابة لوصول التيار ونوع اللون الذي يصدره .
قوافل السيارات وأفواج الراجلين تتناوب الحق وتنصاع بتلقائية وطواعية .
ناذرا ما يحدث خلل أو تجاوز .
وكلما حل الخلل صاحبه الجزاء بوقوع كوارث لا تحتمل.
عجيب أمر هذا الاضباط .
مساطير اقتبسها الإنسان على منوال نواميس الكون وقوانينه .
كل فيه يسير بقدر ...
ومتى اختل توازن أو حدث تجاوز ، حل العطب والاضطراب .
كما في :
السقم بعد سلامة ..
والراحة بعد تعب ..
والكسب بعد عمل ..
والخوف بعد أمان ..
والفشل بعد استسلام وهوان ..
وهي سنن قائمة على مقياس :
لا إفراط ولا تفريط . وإلا كان الجزاء على قدر التجاوز.
أخذت نفسا عميقا وتذكرت كتابي .
وضعت عليه يدي هاما بتناوله . فدنت إحدى خمائل شجرة المزهرية ، مستجيبة لترانيم النسيم فلامست بلطف ظهر يدي .
سرت شرارة ملمسها عبر عروقي ، فنبهتني وصبت سيلا من الاستفهامات عبر شرايين مخيلتي .
فرددت مع نفسي :
يالجمال وفتنة هذه الشجرة !
هل تدري بهاء رونقها وقوة جاذبيتها ؟
وهل تعي قدر ما تضفي على المكان من جمال وجلال ؟
أم أنها تعيش كغيرها - فقط - لتستهلك و تفنى ؟
ركزت اهتمامي عليها .
أغصانها الفتية تطل من نوافذ بالجدع ، بترتيب فسيفسائي بديع ، خطته وقدرته يد أمهر الصناع وأحذقهم .
لكل غصن حيزه وزاده ، ينطلق من مصدره شرارة قاصدة عنان الفضاء .
الأغصان تجاري نسيم أيامها ورياحها صباح مساء .
تنعم بسكون لياليها متزودة بما أغدق عليها الفضاء من بخار وغبار وماء .
تستقي منها كل حين زادها ودواءها
تصبح مشرقة متلألئة ، وتمسي منكسة الهامة مطأطأة الرأس .
لعلها تعاني بدورها كما نعاني .
ولا تبث شجونها كما نبث ، ولا تتبرم كما نتبرم .
أراها واجمة مصغية متأملة .
فهل هي الآن منشغلة بحل ألغاز أفكاري قبل النطق بها ؟
وهل بإمكانها صياغة ردود مقنعة ملائمة أفهمها ؟
أيتها الفاتنة الصغيرة ..
إذا عجز لسانك ..
فأفصحي بحال مقامك.
وعبري عما تتقاذفه الأمواج في أعماقك .
بعد هدوء مطبق ، ووجوم متبادل بيننا ، اهتزت كل أطرافها ، وكأنها أصغت لهمسي وبعثت إشارة تعجم عودي وتوجه قوسي .
انطلقت أقص الشجون .
أعد المراثي .
أصنف الأحداث وفق ما خلفت من رزايا وآلام .
اقتربت الخميلة التي صافحت يدي ، وأخذت تربت على كتفي .
تواسيني وتردد :
لو كنت حكيما لنظرت إلى السقيم المحروم مما أنت به تتمتع .
وتذكرت الجائع وقت ازدحام مائدتك بما لذ وطاب .
ولأشفقت على البائس حين اقتنائك وارتدائك أزهى وأثمن الأثواب .
ولأحسست بلوعة أهل المفقود لما تستقبل عائدا من ذويك بعد طول غياب .
إنك - في نظري - ترفل في حلل نعيم العافية الحقة .
وتزهو بالأنس والرخاء والهناء المقيمة ، دون شعور منك ولا اكتراث ....
الشمس تميل نحو الغروب ، تستعد لإرسال مراجلها فوق مدرج قمة الجبل هناك .تطرزمرمرا بمرثية الأشجان ، وترسل أهازيج مرتلة عبر أوراق الشجيرة المنتصبة هنا بجواري .
أدرت وجهي نحو مخاطبتي وقلت :
أفحمتني وختمت على لساني ...
وأنت ...
قبل البوح بما أطلب ، قال لسان حالها :
حالي يكفيك عن التساؤل عني .
ألا ترى أني مجرد أثاث آني ، وفرجة عابرة ؟
أحس بكوني صغيرة ضئيلة في موقعي وفي أعين الناس .
أعيش فقدانا ماحقا وغربة قاتلة .
أشعر بالضيق والحسرة تخنقني .
تمنيت لو أني على ضفاف نهر متدفق .
أو على عتبة سفوح جبل شاهق .
أشكل مع غيري الأدغال الكثيفة ، والغابات الموحشة .
أنطلق من منبتي شهابا صاعدا أخترق كتل المزن ، وأسهم بدوري في خدمات تنقية الفضاء ، وتوفير النقي الصالح من الهواء ، وتشكيل وجه الطبيعة الخلابة الفيحاء ،
وأنهل وأرتوي ، وأنأى بنفسي عن بصمات الوهن ، ونظرات الاستخفاف ، وعبث الكبار والصغار ...
الشمس تستعد للرحيل .
تبعث خيوطا ذهبية مودعة قبل الانغماس في ظلمة الشفق .
أقفل النسيم .
هدأت الأغصان .
غارت المناجاة .
أسمع دبيب صوتها يبتعد ويأفل رويدا رويدا ،
ممتطيا أشعة النور التي انسحبت مع ترجل قرص الشمس ، وحبوه نحو مستقره.
بعدهنيهة ...
مات النهار .
أشاهد الجنازة ترتفع أمامي في افق البحر الغارب .
غادرت بدوري ،
تابطت - كعادتي - كتابي
وانصرفت عبر مسالك الزمان في هدوء ...
بقلمي