إلا تنصروه

[ثامر الحمدان]

إلا تنصروه



الحمد لله تعالى القائل :" إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ".
يقول الله تعالى مخاطباً المؤمنين إن لم تنصروا النبي صلى الله عليه وسلم وتعينوه فإنَّ الله تعالى حافظه وناصره ومؤيده ومعينه وبرهان ذلك أنّ الله تعالى نصر عبده ونبيه محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم في الهجرة حيث أخرجه الذين كفروا وصاحبه أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه .
قال الله تعالى : " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ "

بعد إجتماع كفار قريش وبعد أن قرروا قتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمباركة إبليس الرجيم الذي حضر هذا الإجتماع في صورة شيخ نجدي ! أرادوا إغتيال خير البشر صلى الله عليه وسلم ويلهم كيف عزموا على فعل هذه الجريمة العظيمة ؟ فوالله ما أظلت الخضراء وما حملت الغبراء وما تنفس الهواء أحد خير من محمد صلى الله عليه وسلم روحي له الفداء ...

أذن الله تعالى لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يهاجر , أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بهذا الإذن فقال أبو بكر : الصحبة الصحبة يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم الصحبة ..
وبعد الأخذ بالأسباب خرجا حتى وصلا إلى غار ثور فدخلا الغار , مكثا في الغار ثلاثة أيام وقريش ما زالت في الطلب حتى وصلوا إلى الغار , قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أنّ أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " أخرجه الشيخان رحمهما الله تعالى .

فمن كان الله تعالى معه فكيف يحزن ؟!

وقد حصل خلاف على من أنزلت السكينة , أعلى النبي صلى الله عليه وسلم أم على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه , فالقائلون بالقول الأول قالوا إنّ الكلام كله جاء في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا مانع أن تكون السكينة التي هي ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم تجددت هنا وأيضاً الضمائر في " تنصروه " " أخرجه " " أيده " كلها عائدة على لنبي صلى الله عليه وسلم فالقول بأنَّ الضمير في " سكينته " عائد على الصديق رضي الله عنه فيه تشتيت للضمائر .

أما القائلون بالقول الثاني فقالوا إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم تنفك عنه السكينة وإنما أنزلت على الصديق رضي الله عنه حين رأى المشركين قريباً منهما وحصل له شيء من الحزن فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى السكينة على أبي بكر رضي الله عنه.

قلتُ : وما المانع أن يكون الضمير عائداَ على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه معاً , جمعاً للقولين وهذا من باب توسع المعنى في القرآن وهذا ظاهر في كثير من الآيات .

ففي إنزال السكينة نصر للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا جاز لي القول أقول نصر معنوي أو نفسي , وفي التأييد بالجنود نصر حسي وبهذا النصر كانت النتيجة أن جعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى بعد أن كانت لهم القوة والشوكة والمنعة .

وكلمة الله هي العليا , هنا إشارة ولفتة بليغة ففي هذه القراءة لم يعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا بل جعلها جملة جديدة ورفع" كلمة" حتى يبين أنَّ كلمة الله هي العليا لا تكون سفلى أبداً نعم قد ترتفع كلمة الكفار لكنها لا تلبث كثيراً وتبقى كلمة الله هي العليا وهذا التركيب يفيد الحصر .

ثم ختم الله تعالى هذه الآية باسمين عظيمين من أسمائه الحسنى " الحكيم " و " العزيز " أما الحكيم فيدل على الحكم فهو سبحانه الذي يحكم ولا معقب لحكمه , ويدل أيضا على الحكمة فهو سبحانه لا يضع شيئاً إلا في موضعه فكل أفعاله وأوامره ونواهيه سبحانه لا تكون إلا بحكمة قد ندرك آثارها وقد يخفى علينا كثير منها .
أما العزيز فيدل على الذي ليس له ند ولا مثيل ولا نظير ويدل أيضا على الغالب الذي لا يقهر فهو سبحانه العزيز الغالب والقوي .

فمن كان ربه الله الحكيم في فعله وأمره ونهيه الذي له الحكم وحده وهو القوي العزيز الذي لا يقهره ولا يغلبه أحد فكيف يخشى من أحد دون الله تعالى ؟.


ومما نستفيده من هذه الآية الكريمة :

أ : أن نصرة الله تعالى ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم واجبة وأنّ الله تعالى ينصر نبيه و وينصر من ينصر الله ورسوله , وقد حاز الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هذا الشرف وكل من سار على نهجهم ونصر النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن مظاهر نصر الله تعالى ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم نصرة كتاب الله تعالى ونصرة صحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم .

ب : أنّ القتل و الإخراج من الوطن قرينان , فعندما يـُخرج أحد من وطنه بغير جرم يستدعي ذلك فكأنما حكمنا عليه بالقتل قال تعالى : " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ " . ويلحق بهذا سحب الجنسية في كثير من البلدان من أبناء الوطن لأنهم يخالفون وجهة نظر الحاكم أو أعوان الحاكم .

ج: أنَّ من عجز عن عبادة الله تعالى في بلد فعليه أن يهاجر فبلاد الله واسعة .

د: الإنسان بطبعه يميل إلى الإجتماع فعليه أن يحسن إختيار الصاحب والصديق .

ه : في قول الله تعالى " ثاني اثنين " مزية وفضيلة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لا يعدلها شي , قال الإمام الليث بن سعد رحمه الله تعالى : ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى : خرج أبو بكر رضي الله عنه في هذه الآية من المعاتبة التي في قوله " إلا تنصروه " .

وهنا لابد أن أنبه على حديثين فرح بهما الرافضة وشغبوا بهما على أبي بكر رضي الله تعالى عنه والحديثان أخرجهما الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه.
الأول : أنّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : " كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة " .

الثاني :أنَّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : " لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا "

فرح الرافضة وأعداء الصحابة بهذين الحديثين وصاروا يستدلون بهما ويقولون إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يكن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار لأن الحديثين يدلان على أن أبا بكر هاجر قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .

والجواب على هذا الشغب الرافضي من وجوه :

الوجه الأول : أنَّ صحبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بأحاديث صحيحة وعند أصحاب السير متواترة . وخبر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه تنضح به كتب الرافضة .

الوجه الثاني : ما قاله الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في الفتح قال: واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذ في الحديث أن ّ ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رفيقه ووجه البيهقي بإحتمال أن يكون سالم المذكور إستمر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر ولا يخفى ما فيه .

الوجه الثالث : قلتُ في الرواية الأولى صرح ابن عمر رضي الله عنهما أن سالماً يؤم المهاجرين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر .. ومعلوم أنّ مسجد قباء لم يكن له وجود إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهنا يتضح المراد وهو أنّ سالما كان يؤم الصحابة وفيهم أبو بكر وعمر في مسجد قباء وهذا لا يمكن أن يكون إلا بعد الهجرة لأن مسجد قباء لم يؤسس إلا بعد الهجرة.

أما الرواية الثانية التي قال فيها ابن عمر كان سالم يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم , فلم يذكر فيها مسجد قباء ولم يذكر أبا بكر , فعبدالله بن عمر رضي الله عنهما يتكلم عن قضية وهي أن سالماَ كان يؤم الصحابة وهو مولى لما معه من القرآن وكان هذا الحدث قبل الهجرة وبعدها .. والله اعلم.

و : أنّ النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا ومتى إشتدت الأزمات وضاقت النفس فاعلم أن النصر قريب والفرج واقع ورحم الله القائل :

ولرب ضائقةٍ يضيقُ بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فـُرجت وكنتُ أظنها لا تفرجُ

ز : أنَّ معركة الحق والباطل باقية ما بقيت الحياة الدنيا وأن الغلبة للحق وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه .

ح : ليست العبرة بكثرة النفير والأموال فالغاية والتمكين لأصحاب الحق وإن كانوا أفرادا.

وبعد فالكلام عن نصرة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا سيما في حادثة الهجرة يحتاج لبحث مبسوط لكن كانت إشارة لبعض ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فوائد .

والحمد لله رب العالمين .

رقم : سعيد بن صالح بن علي الحمدان