صيد الخاطر(4)

أبو حذيفة · #1 20-11-2008, 12:37 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد
اكمل اليوم معكم الرحلة مع كتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي
-رحمه الله - واليوم كالمعتاد سوف أقوم بنقل ثلاثه فصول بإذن الله لتعم الفائدة الجميع

*
فصل: " الغريزة "

لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا بإجتلاب المصالح ودفع المؤذي ركب فيه الهوى
ليكون سبباً لجلب النافع. والـغضب ليكون سـبباً لدفع المؤذي. ولولا الـهوى في
المطعم ما تناول الطعام, فلم يُقِم بَدَنه, فَجُعِلَ لَهُ مَيْل وتَوْق. فإذا حَصَلَ له قَدْرُ ما
يقيم بدنه زال التوق, وكذلك في المشرب والملبس والمنكح. وفائدة المنكح من
وجهين: أحدهما: إبقاء الجنس, وهو معظم المقصود. والثاني: دفع الفضلة المحتقنة
المؤذي إحتقانها. ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه للنكاح ما طَلَبَهُ أحد, ففات
النسل وآذى المحتقن. فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود, وأما الجاهلون فإنهم
مالوا مع الشهوة والهوى, ولم يفهموا مقصود وضعها, فضاع زمانهم فيما لا طائل
فيه, وفاتهم ما خُلِقوا لأجله وأخرجهم هواهم إلى فساد المال, وذهاب العرض والدين.
ثم أدى بهم إلى التلف. وكم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ليحرك طبعه
بالمستجد, فما كان بأسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتجعل تلفه. وكذلك قد رأينا
من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه وبمن يحبه. فمن علم أن هذه الأشياء
إنما خلقت إعانةً للبدن على قطع مراحل الدنيا, ولم تخلق لنفس الإلتذاذ, وإنما جعلت
اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها, إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جُعِلَت الحيوانات
الهيمة أوفى حظاً من الآدمي منها. فطوبى لمن فَهِم حقائق الوضع ولم يَمِل به الهوى عن
فهم حكم المخلوقات.

# الزبدة #
بإختصار يجب أن تعلم أن الغريزة التي وضعها الخالق فيك ليست للإستمتاع والتلذذ
بقدر ما هي زادٌ لك يعينك في هذه الدنيا. ولتعلم أن غريزة النكاح لها فائدتين, الأهم
وهي إبقاء الجنس. والأخرى وهي إخراج المواد الضارة في الجسم عن طريق الجماع.
فالجاهلون للأسف غرقوا في الهوى وفي إشباع غرائزهم ولم يعلموا أنهم لم يخلقوا لهذا
فخارت قواهم وضعفوا بعد أن تلفت أجسامهم في أهوائهم وشهواتهم. أما العاقلون فيعلمون
أنهم لم يخلقوا للتلذذ وإلا لما كانت الحيوانات أسعد حظاً منهم في هذا التنعم, وإنما هذا التلذذ
هو عبارة عن وسيلة يستخدمونها لإعانة البدن للإستمرار في هذه المرحلة, مرحلة الحياة الدنيا.

*
فصل: "الممنوع مرغوب "

تأملت حرص النفس على ما مُنِعت منه فرأيت حرصها
يزيد على قدر قوة المنع. ورأيت في الشرب الاول أن
آدم عليه السلام لما نُهي عن الشجرة حرص عليها مع
كثرة الأشجار المغنية عنها. وفي الأمثال: ( المرء حريص
على ما منع وتواق إلى ما لم ينل). ويقال (لو أمر الناس
بالجوع لصبروا, ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه)
وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيئ. وقد قيل: "أحب شيئٍ إلى
الإنسان ما منعا". فلما بحثت عن سبب ذلك وجدت سببين:
أحدهما: أن النفس لا تصبر على الحصر, فإنه يكفي
حصرها في صورة البدن. فإذا حصرت في المعنى بمنع زاد
طيشها. ولهذا لو قعد الإنسان في بيته شهراً لم يصعب عليه.
ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً طال عيه.
والثاني: أنها يشق عليها الدخول تحت الحكم, ولهذا تَسْتَلِذ
الحرام ولا تكاد تستطيب المباح. ولذلك يسهل عليها التعبد
على ما ترى وتؤثره لا على ما يؤثر.

# الزبدة #

الإنسان بطبعه لا يقنع بما أبيح له أو ما يستطيع الوصول إليه
والنفس البشرية تستلذ ما حرِّم أو ما منعت منه ويضرب الكاتب
ويستدل بعدة أمثلة لهذه الحقيقة المرة كفعل أبو البشر آدم عليه
السلام عندما أكل من الشجره المنهي عنها على الرغم من وجود
غيرها من الأشجار المباحة والغير محرمة عليه.

*

فصل: " جهاد الهوى "

رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت
مالت بالقلب والعقل والذهن, فلا يكاد المرء ينتفع بشيءٍ من النصح.
فصحت بها يوماً وقد مالت بكُلِيَّتها إلى شهوة: ويحك! قفي لحظةً أكلمك
كلمات ثم إفعلي ما بدى لك. قالت : قل أسمع. قلت : قد تقرر قلة ميلك
إلى المباحات من الشهوات, وأما جُلُّ ميلك فإلى المحرمات. وأنا أكشف
لك عن الأمرين, فلربما رأيت الحلوين مُرين. أما المباحات من الشهوات
فمطلقة لك ولكن طريقها صعب, لأن المال قد يعجز عنها والكسب قد
لا يُحَصِّل مُعْظمها, والوقت الشريف يذهب بذلك. ثم شغل القلب بها
وقت التحصيل, وفي حالة الحصول ويحذر الفوات. ثم ينغصها من النقص
ما لا يخفى على مميز, وإن كان مطعما فالشبع يحدث آفات. وإن كان
شخصاً فالملل أو الفراق أو سوء الخلق. ثم ألذ النكاح أكثره إيهاناً للبدن
إلى غير ذلك مما يطول شرحه. وأما المحرمات: فتشمل على ما أشرنا
إليه من المباحات وتزيد عليها بأنها آفة العرض ومظنة عقاب الدنيا و
فضيحتها, وهناك وعيد الآخرة ثم الجزع كلما ذكرها التائب. وفي فُوة
قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة, ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف
يكون ذليلاً؟ لأنه قُهِر. بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً
لأنه قَهَر. فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن كما يرى اللص
لذة أخذ المال من الحرز ولا يرى بعين فكرة القطع. وليفتح عين البصيرة
لتأمل العواقب واستحالة اللذة نغصة, وانقلابها عن كونها لذة, إما لملل أو
لغيره من الآفات أو لانقطاعها بامتناع الحبيب, فتكون المعصية الأولى
كلقمة يتناولها جائع فما ردت كلب الجوع, بل شهَّت الطعام. وليتذكر
الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه. فمن وُفِّق لذلك
كنت سلامته قريبة منه.

# الزبدة #
قد يستلذ الإنسان معصيةً ما وحينها فهو يكون في غفلة
ويشغله الشيطان بالمعصية ولذتها عن إدراك ما سيجني
ورائها من خسران وحسرة. فالعاصي شخص ضعيف لأنه
إستسلم لنفسه وهواه فتراه ذليلاً وفي المقابل فمن يقاوم
شهوته ويمتنع عن ما حُرِّم تلقاه عزيزاً سعيداً لأنه هو ربان
سفينة نفسه ولم يترك السفينة لربان الضلال و الهوى والشيطان.

*

# خاتمة #
آمل أن أكون قد أفدتكم وآمل أن إختيار الفصول كان موفقاً مني

*

إلى الملتقى